تبدو جليةً حالة الارتباك والخوف التي انتابت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، حين تناهى إلى مسامعه بأن المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، قد تصدر مذكرة اعتقال بحقه وبعدد من مرافقيه وزملائه في جيش الاحتلال، خاصة كلاً من يوآف غالانت وزير الجيش وهيرتسي هاليفي رئيس الأركان، وبالتأكيد عدد من قادة الجيش وضباطه وجنوده، بما يعني حكماً على جيش ودولة الاحتلال الاستعماري. الدولة الوحيدة التي تبقت من مخلفات الاستعمار ومن عصور الحرب المنفلتة، التي لا تكترث للقانون الدولي، ولا تقيم وزناً للقوانين والأخلاق الإنسانية.
واستباقاً لهذا الاحتمال، سارع نتنياهو إلى إرسال رسله وموفديه إلى عواصم الغرب، خاصة الى واشنطن، وذلك ليقوموا بحمايته من المساءلة القضائية الدولية، لكن البيت الأبيض، على ما يبدو لم يستنفر من أجل شخص نتنياهو، والجميع يعلم بأن جو بايدن وإدارته باتا يفرقان تماماً بين إسرائيل ونتنياهو وأركان حكومته المتطرفة، لدرجة أنهما باتا يعتبرانه شخصياً خطراً على إسرائيل نفسها، لكن نتنياهو وجد في الجمهوريين المحافظين، الذين في ظل دونالد ترامب باتوا يفصحون بشكل جلي عن عنصريتهم البغيضة وعن إخلاصهم لثقافة الاستعمار والتفوق العرقي، كذلك باتوا يسعون إلى الحفاظ على نظام عالمي ترأسه أميركا بنزعة التفوق القومي، وبإرث الاستعمار، أو على الأقل وفق منطق المنتصر في الحرب الباردة.
سعى نتنياهو إلى الضغط على القضاة، أي إلى تعطيل القضاء الدولي من أن يتخذ الموقف الأخلاقي الذي يتناسب مع الأخلاق الإنسانية، لدرجة أن يطلب من الأميركيين التدخل بتهديد منظمة الأمم المتحدة بقطع تمويلها، ومعروف بأن أميركا تقدم اكبر حصة من ميزانية المنظمة الدولية، التي على كل حال تقدم بدورها لأميركا مكانة الدولة الأولى في العالم، خاصة وان مقر الأمم المتحدة يقبع في نيويورك المدينة الأميركية الثانية بعد العاصمة واشنطن، فكان أن استجاب مايك جونسون رئيس مجلس النواب ممثل الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، فقد اصدر الرجل الذي سارع قبل أيام للوقوف في وجه «مستقبل أميركا» نقصد طلاب جامعة كولومبيا، الذين اعتصموا في الحرم الجامعي منددين بحرب الإبادة الإجرامية الإسرائيلية، وبالموقف الأميركي المنحاز ومطالبين بوقف الحرب، والذي يدل بشكل واضح على حقيقة الجمهوريين اليمينية، ليس فقط تجاه ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي وحسب، ولكن تجاه عالم أكثر عدالة ومساواة وإنسانية، والدليل هو استطلاعات الرأي، كذلك تقدم ترامب في انتخابات الحزب الداخلية، ببرنامجه السياسي المحافظ على كل المستويات، وبطاقمه الذي ما زلنا نتذكره، والذي ضم كوشنير وفرديمان وبنس وغيرهم.
مايك جونسون أصدر بياناً اعتبر فيه أن نتنياهو وقادة جرائم الحرب الإسرائيليين كما لو كانوا سياسيين ودبلوماسيين وعسكريين أميركيين، واعتبر أن إصدار المحكمة أوامر اعتقال يخلق للمحكمة سلطة غير مسبوقة، ولذلك فقد دعا إدارة بايدن للتدخل والطلب من المحكمة عدم القيام بإصدار مذكرات الاعتقال، بشكل قاطع، واستخدام كل أداة أو وسيلة متاحة للقيام بذلك، أي استخدام التهديد الشخصي بحق القضاء، والتهديد بالتوقف عن تمويل الأمم المتحدة، ثم كان أكثر وضوحاً حين قال بأنه إذا أصدرت الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق بنيامين نتنياهو فسيكون ذلك تطوراً خطيراً يجب الرد عليه، وذلك بفرض العقوبات عليها، وفرض العقوبات على مسؤولي المحكمة المشاركين في التحقيقات ضد الولايات المتحدة وحلفائها.
بذلك أظهر جونسون وجمهوريو الكونغرس بأنهم كما لو كانوا موظفين لدى نتنياهو، وأنه يطمح لأن يكون خليفة ترامب، في حالتي فوزه في الانتخابات القادمة أو فشله فيها، ففي الحالتين سيجد الحزب الجمهوري نفسه بحاجة إلى زعيم غير ترامب بعد أربع سنوات قادمة.
أما التقارير التي أشارت إلى احتمال مرجح بأن تصدر عن المحكمة الجنائية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت وهاليفي، فقد أشارت إلى احتمال آخر وهو أن تكون القرارات بذلك قد صدرت، أو أنها ستصدر دون الإعلان، بحيث يجري إظهارها حين يسافر احد هؤلاء للخارج، فيفاجأ بوجود مذكرة الاعتقال بانتظاره، حيث حينها لن يمكنه الإفلات أو الهرب.
وهكذا فإن حالة الخوف التي انتابت نتنياهو ستبقى تلازمه طوال حياته، ولهذا فإن لا مندوحة من التساؤل، فما دام الرجل يخاف إلى هذا الحد من القضاء الدولي، فلمَ أقدم وما زال يقدم على ما يضعه أمام المساءلة القضائية، بالطبع الجواب بسيط هنا وهو حسابات السياسة، ونتنياهو وجد نفسه في وسط مقدمة المسرح السياسي، محمولاً على محفة اليمين ثم اليمين المتطرف، وبالتحديد محمولاً على محفة معارضة الحل السياسي، بدءاً من معارضة أوسلو، وصولاً إلى ارتكاب حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وكانت أدواته طول ثلاثة عقود مضت رجالاً وأحزاباً وأطيافاً من التشدد الديني والتطرف السياسي، الذي يقوم على نفي الآخر، بقتله وتشريده وحصاره، وارتكاب كل ما يندرج تحت سقف اضطهاد شعب آخر.
والحقيقة أن هذه ليس صفة نتنياهو فقط، بل هي جوهر دولة إسرائيل التي قامت في ظل الحرب الباردة، محملة بإرث الاستعمار، وظلت جزءاً من الحرب الباردة، بحيث كانت عصا الغرب الغليظة الموجهة ضد طموح شعوب الشرق الأوسط في الحرية والوحدة، أي أن إسرائيل بذلك الجوهر والمحتوى بوجودها نفسه تنفي الآخر، ورغم أن الأمم المتحدة وافقت على إقامتها بشرط أن يترافق وجودها مع إقامة دولة فلسطين، وفق قرار التقسيم، إلا أن إسرائيل اعتبرت في قيام دولة فلسطين تهديداً وجودياً، لأنها لم تكتف بإقامة دولة تضع حداً لاضطهاد اليهود في أوروبا، بعد الهولوكوست، دولة تعيش بسلام وحسن جوار مع دولة فلسطين، وتعيش بهدوء في محيط عربي إسلامي.
المشكلة أن إسرائيل بعد انتهاء الحرب الباردة، لم تدرك المتغيرات الدولية والإقليمية، أو أنها أدركتها وقرأتها بشكل مغاير، أي ظلت تقرأ الواقع بمنطق الماضي، أو بمنطق مختلف، قرأت إسرائيل انتهاء الحرب الباردة على انه انتصار للغرب الاستعماري الذي أوجدها وأقامها في محيط لا تنتمي إليه أصلاً، لذا ظل يشعر بضرورة الحفاظ عليها من باب الوفاء وتكفير ذنبه الذي ارتكبه في الهولوكوست، ولم تقرأ إسرائيل في ظل سيطرة اليمين على الحكم والمجتمع، أن عالم ما بعد الحرب الباردة، لم يكن عالم القطب الغربي الوحيد، بل إن العالم تجاوز حالة الاستقطاب ليتحول إلى عالم أكثر تجانساً، خاصة مع ثورة الاتصالات، وهكذا فإنه من مرور الوقت، يجد حكام إسرائيل من اليمينيين المتطرفين أنفسهم وقد ضاقت عليهم الدنيا، بحيث يكثر أعداؤهم أكثر من أصدقائهم، بحيث أنهم وهم يظنون بأنهم باتوا على بعد خطوة واحدة من إغلاق مسار حل الدولتين، الذي كان يجب أن يصل لنهايته قبل ربع قرن، وفق أوسلو، بل ونفي الآخر الفلسطيني تماماً بإخراجه من حدود فلسطين التاريخية بالتهجير، بعد هذه الحرب التي ألقوا بها بكل ما في جعبتهم من خروج على القانون الدولي، بل ومعاداة الإنسانية، ظنوا أنهم باتوا على بعد خطوة واحدة من تحقيق هدفهم الفاشي.
وإذا كان نصف الأميركيين أنفسهم باتوا يرون أن عدداً من وحدات وكتائب الجيش الإسرائيلي ترتكب جرائم حرب، وهذه رؤية مخففة للغاية، تقول بذلك عدد من مؤسسات حقوق الإنسان الإسرائيلية نفسها، وحيث أن كتيبة «نتساح يهودا» وأخواتها تمثل الجيش نفسه، والجيش الإسرائيلي هو العمود الفقري لدولة إسرائيل، فإن إسرائيل الاستعمارية لن تجد خلاصها حتى في حال فوز ترامب، لكنها تجد خلاصها في التحرر من فاشييها اليمينيين، ومن التطرف الديني الذي يسير بها على طريق الدولة الداعشية، وأول خطوة لهذا هو سقوط حكومة جرائم الحرب الحالية، وانزواء نتنياهو، وخروجه من مسرح السياسة، ثم في الشروع فوراً بترتيبات الانسحاب مما تحتله من أراضي الغير، والموافقة على إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، ثم ترتيبات التحول الداخلي، ببث ثقافة الحياة المدنية القائمة على أساس التعايش مع الآخرين المختلفين دينياً وقومياً، ممن هم في جوار إسرائيل وممن هم في داخلها أيضاً.
هيئة الأسرى: واقع مأساوي يعيشه الأسرى في سجن" جلبوع "
16 أكتوبر 2024