حول أسئلة «ما بعد الصفقة» مرّةً أخرى!

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم : عبد المجيد سويلم


 

قُلنا في المقال السابق: إنّ الوعي العالمي الذي اجتاح شوارع العالم، والذي تميّز من حيث العمق والمحتوى والمستوى، ومن حيث طابعه المثابر، ومن حيث أنّه بدأ واستمرّ حتى الآن كوعيٍ عابرٍ للفئات الاجتماعية، والأطياف السياسية، ومن حيث امتداده واتّساعه، هو ظاهرة عالمية جديدة أطاحت بالسردية الإسرائيلية لهذه الحرب الهمجية على الشعب الفلسطيني، وحاصرت الانحياز «الغربي» الداعم لها، وخلخلت إلى حدّ كبير وبصورة غير مسبوقة على الإطلاق الرواية الصهيونية، وأجهزت للمرّة الأولى على الكثير الكثير من مقولات هذه الرواية.
وقلنا في خاتمة المقال: إنّ النتائج التي ستترتّب على هذه الظواهر النوعية الجديدة لهذا الوعي العالمي ستعتمد إلى درجةٍ معينة على التحام هذا الوعي مع وعي عربي، ووعي فلسطيني قادر على الاشتباك النشط والفعّال مع التحوّلات التاريخية التي نشأت، والتي ستنشأ لاحقاً بفعل عملية التغيير، وقبلها التأثير الذي سيتبع هذه التحوّلات.
وإذا بدأنا بالوعي العربي أوّلاً، فما الذي نجده أمامنا حتى الآن؟ 
الاستطلاعات القليلة، بل والنّادرة التي أُجريت من جهاتٍ «غربية»، أومن بعض مراكز الاستطلاع الدولية التي تدّعي «الحياد»، وتؤكّد على النزاهة والتجرّد، أفادت نتائجها بأنّ الشارع العربي، بتفاوتات نسبية قليلة بين بلدٍ وآخر لم يكن في أيّ يومٍ من الأيّام، ومنذ أكثر من خمسة عقود على هذه الدرجة من الوعي المتصل بالنضال التحرّري للشعب الفلسطيني، وقد تجاوزت نسب التضامن مع هذا النضال الـ 90% في المعدّل الوسطي. لكن محتوى الوعي العربي، ونحن نتحدث دائماً عن وعي الشارع العربي لا يتصل بمفاهيم الحقّ والعدالة والمظلومية التاريخية، التي وقعت على الشعب الفلسطيني، وذلك لأنّ مثل هذه القضايا، على أهميتها كلّها، ليست هي القضايا التي تحدّد محتوى الوعي العربي، ولأنّ مثل هذه القضايا ليست قضايا نوعية جديدة في وعي الشارع العربي، حتى وإن تعزّزت أكثر ممّا كانت عليه.
محتوى الوعي العربي الجديد بعد 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر العام المنصرم، يتصل قبل كلّ شيء بالصدمة التي أصابت هذا الوعي، وبالهزّة من الأعماق التي أحدثها «طوفان الأقصى»، وبالذهول الذي طغى على هذا الوعي جرّاء الانهيار والانكسار المدوّي الذي بدت عليه دولة الاحتلال، في الساعات الأولى لتلك الأحداث.
والصدمة هنا كانت إيجابية، خصوصاً أنّ الثقافة الشعبية السائدة، ولأسباب يطول شرحها، بقدر ما كانت تناصر الحقّ الفلسطيني، فإنّها في نفس الوقت كانت تنظر للدولة العبرية كقوّة غاشمة غير قابلة للانهيار أو الانكسار في ظلّ المعطيات السائدة في الواقع العربي.
هنا كان الوعي العربي قد تجاوز نفسه، وتحرّر من «مسلّماته» التي كرّسها الواقع في كلّ مظاهره السلبية من عجزٍ وفشل وهوان، وهنا يمكن أن نشخّص المظهر الأوّل في وصف الحالة النوعية الجديدة في الوعي العربي.
أمّا المظهر الثاني بعد التحرّر من عقدة التفوّق الإسرائيلي، فكان الشعور العارم بأنّ شعوبنا قادرة، وأنّها تستطيع، وأنّ لدى هذه الشعوب قوّة كامنة لم تُجرّب بعد، أو أنّ الواقع الذي يكرّسه النظام العربي يمنع ويُمانع انخراط الشارع العربي من التعبير عن نفسه في الانتصار الفاعل لفلسطين، شعباً ووطناً وقضيةً، إلّا في إطار الهوامش الذي يحدّدها هذا النظام.
وأمّا المظهر الثالث فقد تمثّل في المشاعر الجيّاشة، والتي وصلت إلى عنان السماء أحياناً افتخاراً بالبطولة، وانبهاراً بالصمود، وتمجيداً بشجاعة وبسالة المقاتلين، وبروح الفداء والإقدام الذي أبدوها في ميدان المعركة.
المظهر الرابع في نوعية الوعي العربي بعد 7 تشرين الأوّل/أكتوبر العام المنصرم، كان خاصاً ومميزاً إلى حدّ كبير، فقد تجاوز هذا الوعي الكثير من «الحساسيّات» التي سبقت «طوفان الأقصى»، خصوصاً تلك الحساسيّات التي تتّصل بالأبعاد المذهبية والدينية والطائفية، وارتفع هذا الوعي إلى ما فوق هذه الأبعاد بصورةٍ لم تحدث منذ مرحلة المدّ القومي في المرحلة الناصرية، على الرغم من كلّ محاولات الحلف المعادي تصوير المعركة والحرب وكأنّها معركة وحرب بين حركة «حماس» وإسرائيل، وليس كحرب إبادة وتهجير واقتلاع ضدّ الشعب الفلسطيني كلّه.
صحيح أنّنا أمام تجاوز نسبي، وربما ما زال غضّاً أو هشّاً بصورةٍ أو بأخرى، لكن الصحيح، أيضاً، هو أنّ أحد أهمّ مظاهره القوة الكامنة في هذا الوعي الجديد وإمكانية وصول هذا الوعي إلى تنحية تلك الأبعاد والحساسيّات، وتهميشها، وربما تحويلها إلى نقيصة سياسية وثقافية، بل وإلى «عيب» اجتماعي وأخلاقي، أيضاً.
وفي المظهر الخامس تميّز الوعي العربي ــ على ما أرى ــ في بُعده النفسي، وهو بُعد له أهمية خاصة في مُطلق الأحوال.. تميّز بالإحساس القوّي لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية بدرجة الخطر الذي تمثّله دولة الاحتلال على أوطانها، وبدرجة التهديد الذي يمثله المشروع الصهيوني على مستقبل البلدان العربية، تماماً كما تميّز الوعي الجديد بدرجة عالية عن مدى ما ينطوي عليه هذا المشروع من عنصرية واستعلاء وعداء لكل ما هو عربي، ناهيكم عن العداء لكلّ ما هو فلسطيني، ولكلّ ما هو إنساني.
وفي البُعد النفسي المقابل، فإنّ الوعي العربي الجديد قد أدّى فيما أدّى إليه إلى تعزيز الثقة بالنفس، بعد أن أدرك الشارع العربي أنّ دولة الاحتلال ليست أبداً على «قلب رجلٍ واحد»، وهي قابلة للانكسار والهزيمة، وجيشها قابل لأن يُقهر، وهو لم يعد ذلك الجيش الذي لا يُقهر، وأنّ الردع الحقيقي الذي طالما تغنّت به ليس سوى القدرة على القتل، وليس القدرة على القتال.
والآن نأتي إلى السؤال الأكبر والأهمّ:
هل كان هذا الوعي الجديد في أبعاده ومحتواه بمستوى المسؤولية التي يفترضها هذا الوعي على مستوى الأداء والعطاء، والإسناد والدعم، وعلى مستوى الاستعداد للتحدّي والتمرُّد، أو المثابرة على النزول إلى الشارع، أو حتى على مستوى التنسيق والتنظيم لمواكبة أحداث المعارك، ودرجة الإبادة والتوحُّش، وهذا الإجرام الهمجي الذي مارسته دولة الاحتلال حتى الآن؟ وما زالت تُمعِن في ممارسته ليس فقط في قطاع غزّة، وإنّما في الضفة الغربية، أيضاً؟
في محاولة الإجابة عن هذا السؤال الكبير، يمكننا ولغايات الاختصار والتكثيف أن نركّز على القضايا التالية:
أوّلاً: ليس صحيحاً، ولا دقيقاً، وليس من العلمية، وليس من المنطق، أن توضع الأنظمة العربية والشعوب العربية في سلّة واحدة، وأن يتمّ الحديث عن العجز والخُذلان وكأنّ هذه الشعوب تتردّد في الأداء والعطاء، بل وفي افتداء الشعب الفلسطيني لأسباب تتعلّق بوعيها، ودرجة تضامنها، أو من موقع إرادتها واختيارها، وحرية هذه الإرادة، وهذا الاختيار.
ثانياً: إنّ هذه الشعوب تعاني في غالبيتها من أزماتٍ اقتصادية طاحنة وغير مسبوقة، وهي لا تملك زمام أمورها، وتفتقد في غالب الأحوال والأحيان لحرّيتها، ولمنظّماتها السياسية الفاعلة، ولمنظّماتها النقابية والمهنية المطلوبة، وهي مسلوبة الإمكانية الإمكانيات، ومنزوعة الوسائل وآليات الدفاع عن حقوقه.
ثالثاً: إنّ الشعوب العربية، المترفة والمعدومة على حدّ سواء هي في الواقع تعيش على هامش الفعل والتأثير، وإلى ما هو خارج نطاق التغيير، ولهذا بالذات فإنّ النظام العربي لا يخشى هذه الشعوب غالباً، وهو يشعر بأنّ «الغرب» هو الذي يحمي هذا النظام، ولأنّ النظام لا يستمدّ شرعيته من هذه الشعوب، وإنّما من درجة موافقة «الغرب» ورضاه عن حسن سلوك النظام أمام الأخير.
كما أن هذه الشعوب باتت تخشى على نفسها، وعلى مجتمعاتها، وحتى أوطانها في ضوء النتائج المدمّرة التي انتهت إليها هبّات، وانتفاضات «الربيع العربي» التي أدّت إلى كوارث سياسية واجتماعية، وإلى انقسامات كادت تحرق الأخضر واليابس، وطالت الدولة، ولم تطل الحكم، ودمّرت النسيج الوطني والاجتماعي وأبقت على منظومات الفساد والاستبداد.
وامتلاك الوعي من دون امتلاك الأدوات السياسية، ومن دون الحامل الاجتماعي، ومن دون منظّمات نقابية، ومن دون مجتمع مدني منظّم، لا يؤدّي إلى تغيير الواقع، ولا حتى لإصلاحه.
وعلى الرغم من هذا الواقع المرير فقد شهدنا حراكاً واسعاً في معظم الشوارع العربية دعماً وإسناداً لفلسطين، ولكننا لم نشهد ديمومةً وانخراطاً فاعلاً في هذا الإسناد لأنّ عوامل هذه الديمومة وهذا الانخراط ليست متوفّرة بالدرجة المطلوبة أو الكافية في هذا الواقع.
الواقع الراهن يُنتج الإسناد والدعم الموسمي والعارض، وربما الانفعالي، في حين أنّ المجتمع الحيّ النشط والمنظّم هو الوحيد الذي يُنتج الدعم والإسناد المستمرّ المثابر والفاعل، وشتّان ما بين الحالتين.
شعوبنا العربية تحترق من داخلها، والدمّ يغلي في عروقها، والحُرقة تأكلها، والغُصّة في حلوقها، لكنّها مع ذلك كلّه عاجزة حتى الآن عن ترجمة كلّ هذه المشاعر إلى فعلٍ يُحدث الفرق باتجاه التأثير والتغيير.
ولن يتحوّل الالتحام ما بين الوعي العالمي والوعي العربي، والفلسطيني الذي سنأتي عليه لاحقاً، إلى قوّة دفع حقيقية في هذا الإقليم إلّا إذا امتلكت المجتمعات العربية أدواتها الكفاحية التي تدافع بها عن مصالحها، وبما يحمي أوطانها، وبما يُجبر النظام العربي على شرعية جديدة مصدرها الوحيد الشعوب العربية، والتي وحدها القادرة على حماية هذا النظام، بعد أن يتحوّل إلى نظامٍ يدافع عن مصالح شعوبه، أوّلاً وثانياً وعاشراً.