سيتعرض القرار الوطني الفلسطيني للكثير من الضغوط في المرحلة المقبلة رغم أن حقيقة محاولة استلابه والضغط عليه لم تتوقف يوماً منذ نكبة شعبنا، إلا أن ما سيجري في المرحلة المقبلة سيكون مشهوداً لجملة من الأسباب ولكن يجب النظر لسببين بالكثير من التأمل. فمن جهة فإن الضائقة المالية الكبرى التي تواجهها السلطة الفلسطينية خاصة مع تشديد إسرائيل سياسة الاستقطاعات وقرصنة الأموال وربما وقفها بشكل كامل لاحقاً ستخلق مساحات أكبر للابتزاز ومحاولة الضغط باتجاهات تصادر الكثير من استقلالية هذا القرار، كما أن الحرب في غزة والترتيبات لما بعد انتهاء الحرب وهي لن تنتهي بشكل فعلي ستفتح المجال أمام محاولة حرف هذا القرار الفلسطيني في اتجاهات لا تخدم التطلعات الحقيقية لشعبنا.
لطالما قاتل الفلسطينيون من أجل استقلال قرارهم ومن أجل عدم السماح للآخرين بالتدخل في شؤونهم، ولطالما كان النضال الفلسطيني جزءاً من التجاذبات العربية ولاحقاً الإقليمية مع دخول تركيا وإيران على خط التأثير عبر التنظيمات الإسلامية خاصة حماس والجهاد الإسلامي، ولطالما ظل شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقبل بوصلة تشكل مساراً لقياس اقتراب وابتعاد الآخرين عن المصالح الفلسطينية ومقاصد الكفاح التحرري. ولكن يبدو أن هذا في طور التعرض للمزيد من الضغوط من أجل أن يتآكل وينكمش في ظل التطورات المهولة التي تشهدها القضية الفلسطينية خاصة تبعات الحرب الهمجية على غزة.
وبالقدر الذي يبدو فيه النقاش حول اليوم التالي للحرب سخيفاً لأنه يعني أيضاً تجاوز ما يجري في الحرب وجعل ما سيتلوها هو أساس أي نقاش إقليمي وعالمي، بقدر ما يعكس توجهات لا تبدو إيجابية بخصوص المستقبل الفلسطيني. فقرار إدارة قطاع غزة لن يعود فلسطينياً بحتاً وأي ترتيبات تتعلق بغزة يجب أن تكون جزءاً من رؤية الإقليم وبالطبع في المركز من هذه الرؤية مواقف القيادة الإسرائيلية.
الذي يفرق هذه المرة أن رغبة إسرائيل سيتم تمريرها بوصفها رغبة إقليمية وليست رغبة جنرالات قاموا بتدمير القطاع عن بكرة أبيه.
والنقاش سيعني أيضاً أن الفلسطينيين ليسوا أحراراً في التقرير بمصير غزة ولا في الطريقة التي سيتم فيها تحديد هذا المصير. فاليوم التالي للحرب سيعني تجنيد أموال من أجل إعادة إعمار القطاع ومن سيدفع بالطبع ستكون له كلمة في اختيار من سينفذ.
هذه حقيقة مرة ومؤلمة لكنها تعني الكثير في سياق النقاش حول مستقبل غزة.
أما الأمر الآخر فهو الموضوع المالي برمته فالسلطة الفلسطينية تواجه ضائقة غير مسبوقة لم يزحزح منها شيئاً كل المحاولات لفتح آفاق جديدة مع بعض الدول ولا الطلب من العرب تقديم العون لأن العون مشروط بالطبع، ولا حتى التغيير الحكومي الذي تم.
وفي كل هذا يتم تقديم المطالب حول الإصلاح الداخلي وكأنه طوق النجاة الذي يراه الإقليم ولا يراه الفلسطينيون.
أليست مفارقة أن يصبح الإصلاح الفلسطيني شعار الإقليم الذي يبدو الإصلاح بريئاً منه؟ أليس من عجائب الزمان أن تقوم دول لا علاقة لها بالديمقراطية بمطالبة السلطة بالمزيد من الديمقراطية؟ أليس من نوائب الدهر حين يظن البعض أنه أكثر حرصاً على الفلسطينيين من الفلسطينيين أنفسهم فيما لا أحد يحرك ساكناً حين يتم تدمير غزة وتهجير سكانها؟
مفارقات غريبة لكنها بالمجمل تعكس توجهات يجب ألا نغفل عنها وندرك المغزى الحقيقي وراءها لأنها تمس جوهر استمرار الكفاح الفلسطيني من أجل استرداد الحقوق الوطنية. المؤلم أن ما يجري في غزة لا يستوقف أحداً بشكل جدي.
كما أن هذا لا يعني أن من حق الدول التي تقول بالديمقراطية وحقوق الإنسان في الغرب خاصة بلاد العم سام بالإصلاح الفلسطيني، لأننا رأينا كيف أن منظومة حقوق الإنسان تتراجع حين يتعلق الأمر بالمتظاهرين الداعين لوقف الحرب والإبادة في الجامعات الأميركية، ورأينا كيف يتم ضرب الناس واعتقالهم في مشاهد فقط تحدث في الدول الديكتاتورية على الأقل كما كنا نعتقد. كما أن مثل هذه الدعاوى من تلك الدول لا تعكس حرصاً حقيقياً على نجاعة النظام السياسي الفلسطيني بل حرفاً للنقاش وتشتيتاً للجهد فبدل الضغط لإنهاء الاحتلال الذي يشكل أكبر فساد قيمي في التاريخ وأكبر انتهاك لحقوق الإنسان يتم الضغط على الضحية لكي تثبت أنها لا تمانع ما يجري بحقها.
القصة ليست قصة إصلاح ولا حكم رشيد ولا أياً من هذه العبارات الكبيرة، بل هي قصية هيمنة على السياق الفلسطيني وإحداث تغيرات في القيادة الفلسطينية تتوافق مع التطلعات لتجاوز الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني وتحويل الملف الفلسطيني إلى مجرد بحث عن تفاصيل اقتصادية لتحسين شروط الحياة، وبالتالي تبريد الجبهة الساخنة في الشرق الأوسط والتخلص من العقدة الأساسية فيها.
ولا هي قصة كلمة حق يراد بها باطل لأن المفارقة الكبرى وبالقياس وبكل معايير الفحص حتى إذا تعمل إعمال نموذج «فريدم هاوس» الأميركي الشهير فإن السلطة الفلسطينية أكثر ديمقراطية وأقل انتهاكاً لحقوق الإنسان وللحريات من، لن أقول كل الدول العربية مع أن هذا ممكن، ولكن من أغلب الدول العربية.
وليس عدم إجراء الانتخابات رغم الخلاف الفلسطيني الداخلي ورغم عدم التوافق الفلسطيني حول عدم إجرائها إلا نتيجة من نتائج الاحتلال وأنا من الذين يؤيدون عدم إجرائها بأي حال دون القدس لأنها في المرة التالية ستجرى دون مناطق «ج» كما كان يُطلب قبل ذلك بسنوات إجراؤها دون غزة.
ومن يقبل أول شرط يقبل قائمة شروط لاحقة لن تنتهي. الإصلاح بريء من كل النقاش الدولي والإقليمي واستقامة الوضع الفلسطيني ليس ما يقلق العالم ولا هو يريد فعلاً لنا أن نكون أفضل نظام سياسي وحكومي في المنطقة، بل يريد لنا أن نكون ما يريد وليس ما نريد.