بعد ثمانية أشهر، من حرب بشعة، دوافعها، ومجرياتها وأهدافها أصبحت أكثر من واضحة، لا يزال البعض الفلسطيني، يطرح أسئلة تشكيكية في دوافع ما وقع في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر المنصرم، والأهداف التي تقف خلف تلك الدوافع.
هؤلاء، يواصلون أفكاراً وتقييمات قديمة ويضعون الحدث في دائرة المؤامرة، ولتحقيق أهداف حزبية خاصة مطعون في وطنيتها.
يلتقي هؤلاء، عملياً، مع من يُحمّلون حركة "حماس" والمقاومة الفلسطينية المسؤولية، عن كلّ ما يقع من مآسٍ وكوارث حلّت وتحلّ بأهل قطاع غزّة، باعتبار أنّ ما وقع في "طوفان الأقصى" أيقظ المارد الإسرائيلي الذي كان ينتظر هذه الذريعة لارتكاب إبادة جماعية للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، ومحاولات طمسها وتصفيتها.
منذ أن وقع الانقلاب "الحمساوي" على السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 2007، وهذا البعض يروّج، ولا يزال بأنّ "حماس" "الإخوانية"، تسعى من أجل إقامة "إمارة غزّة"، باعتبار أنّ "الإخوان"، يتجاوزون حدود الوطنية، ولا يعترفون بالحدود الجغرافية، وأنّهم مستعدون لإقامة "نظام الشريعة" على أيّ بقعة جغرافية.
لقد كنت في مواقع المتشكّكين في أفكار وأهداف "الإسلام السياسي" عموماً، ولكن لم يصل الأمر إلى حدّ الاقتناع، والترويج لفكرة أنّ "حماس" تسعى لإقامة "إمارة غزّة".
صحيح أنّ السياسة التي تبنّاها ومارسها بنيامين نتنياهو عملت كلّ الوقت على تكريس الانفصال بين الضفة الغربية والقطاع، وقدّم الكثير من الإيحاءات السياسية والعملية التي توحي بشبهة دعمه لتكريس دولة منفصلة في غزّة، اتضح أخيراً أنّ إستراتيجية نتنياهو تعمل على تقويض المشروع الوطني الفلسطيني، وإبادة الهوية الوطنية بصرف النظر عن حاملها، وجغرافيتها الفلسطينية.
في لحظة غرور وعنجهية، قدّم نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أيلول المنصرم، خارطة لفلسطين كلّها كجزء من "الوطن اليهودي".
كانت تلك الخارطة تعبيراً صارخاً وفاضحاً لسياسة الحسم، التي شكّلت إستراتيجية وهدف "الائتلاف اليميني المتطرّف"، الذي يقوده نتنياهو منذ بداية العام 2023.
تلك الخارطة، أيضاً، تتجاوز حتى "صفقة القرن" التي طرحها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وكانت تتضمّن دولة قزمة ومقسّمة وتحت رحمة الاحتلال الصهيوني، هذا في أحسن الأحوال.
وحتى نوضح أبعاد الحرب الإجرامية الجارية وأهدافها، فإنّ من يراها مؤامرة، أو تستهدف إقامة "إمارة غزّة"، إنّما يتجاهل الآثار الإستراتيجية التي أحدثتها تلك الحرب منذ بدايتها، ليس فقط على خارطة جغرافيا فلسطين أو الشرق الأوسط، وإنّما تعدّت ذلك إلى الوضع الدولي برمّته.
ولكن لماذا كنت وما زلت أستبعد أن تكون "حماس" قد قامت بما قامت به، لتحقيق هدف "إمارة غزّة"؟
أوّلاً، وما هو واضح، عبر التجربة، أنّ "حماس" أدارت القطاع لنحو 17 عاماً، وكان بإمكانها أن تتصرّف كإمارة، وربّما كانت ستحظى باعترافات عربية ودولية، وموافقة إسرائيلية ملغومة إلى حين.
ثانياً، لقد لاحظنا تطوّر الخطاب السياسي للحركة بعد "وثيقتها السياسية العام 2017"، حيث أخذت تقترب أكثر فأكثر من الخطاب الوطني العام، بما في ذلك هدف إقامة الدولة على الأراضي المحتلة العام 1967، وعاصمتها القدس، وفق شروط معيّنة دون أن تتنازل عن هدف استعادة كلّ الحقوق الوطنية الفلسطينية.
أي أنّ خطابها يتلاقى مع خطاب حركة "فتح"، وبقية أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية خارج إطار "اتفاقية أوسلو".
ثالثاً، "حماس" أدركت أهمية وسطوة الجغرافيا السياسية، وسعت إلى إقامة أفضل علاقة مع مصر التي تخوض حرباً ضدّ "جماعة الإخوان المسلمين".
هذا التحوُّل يعني أنّ القوى الوطنية الفلسطينية تتوفّر لها الأرضية السياسية لإنهاء الانقسام، لولا التدخُّلات الخارجية، والرفض الإسرائيلي، وبعض الحسابات السياسية ذات الأبعاد الفصائلية.
أمّا لماذا حصل مثل هذا التطوُّر، فقد كنت أشرت إلى ذلك في مقالات سابقة.
أوّلاً، الفشل الذريع الذي لحق بمشروع "الإسلام السياسي"، و"جماعة الإخوان المسلمين"، ابتداءً من مصر، ثم "المغرب"، كدول أساس، بالإضافة إلى تشرذم الجماعة، وتراجع نشاطاتها، ودورها في المنطقة عموماً وظاهرة العداء الشامل لـ"الجماعة" حين تسلّمت السلطة في مصر وبرضا ودعم أميركي إبّان إدارة "الديمقراطي" الأميركي باراك أوباما، وأتيحت لها الفرصة، أيضاً، في "المغرب" حين فازت في الانتخابات وشكّلت الحكومة، لكن فشل تلك الفرص أحدث تصدُّعاً عميقاً لدى "الجماعة"، وترك لدى منتسبيها قدراً عالياً من اليأس والإحباط والشعور بالفشل الكبير.
ثانياً، حاولت "حماس" أن تنافس منظمة التحرير الفلسطينية على التمثيل والموقع، والقرار، لكنّها وجدت نفسها أمام حائط مسدود، حيث لم تنجح رغم كلّ ما فعلته في الحصول على موقع تنافسي أو الحصول على شرعية عربية أو دولية، فضلاً عن أنّ الشرعية الفلسطينية منقوصة بسبب حالة الانقسام.
ثالثاً، لقد حاولت "حماس" أن تفرض على المجتمع الغزّي "نظام الشريعة الإسلامية"، وقامت بحملات من أجل إحداث هذا التحوُّل لكنها، أيضاً، فشلت في تحقيق ذلك أمام صلابة التصدّي المجتمعي الرّافض لتلك الإملاءات.
رابعاً، في ظلّ ظروف الصراع، فشلت "حماس" وحكومتها في غزّة باستمالة فصائل العمل الوطني الفاعلة لبناء شراكات سياسية إدارية، ولذلك ما كان لها أن تحمل لوحدها عبء الظروف الصعبة، من دون تحالفات حقيقية كانت قاعدتها المقاومة والموقف السياسي.
والآن هل يمكن تجاهل حقيقة أنّ ما وقع في "طوفان الأقصى" كان قد جرى الإعداد له بمثابرة وصبر، ورؤية واضحة، منذ سنوات؟ بالتأكيد لم يكن في وارد أفضل المتنبّئين أنّ ردّ الفعل العدواني الإسرائيلي سيكون كما ظهر في الواقع منذ ثمانية أشهر، ولا أظنّ أنّ أحداً كان قد تنبّأ بأنّ منظومة حلفاء الدولة العبرية على الصعيد الدولي، وفي مقدّمتهم الولايات المتحدة الأميركية، سيعلنون شراكتهم الكاملة والفاعلة إلى جانبها كما حصل فعلاً.
كما لم يتوقّع أحد أن يكون الموقف الرسمي العربي والإسلامي على هذا القدر من التخاذل، من دون أن يؤدّي ذلك إلى هزّات قوية.
وبالمناسبة، ورغم مرور ثمانية أشهر، حرّكت البشر والحجر، وأحدثت هزّة أرضية عنيفة كما لم تفعلها الحرب في أوكرانيا، فإنّ أيّاً من "الجماعات الإسلامية" لم تظهر في ميدان الفعل، لا "إخوان"، ولا "قاعدة"، ولا "داعش"، ولا كلّ المسمّيات التي نشطت لتكسير الحالة الوطنية العربية، لتحقيق أهداف استعمارية.
خلاصة القول: إنّ ما يجري على أرض الصراع الواسعة، يؤكّد أنّ المقاومة الفلسطينية تخوض حرباً تحرُّرية، مُجدية وواعدة، في مواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري، وأنّ الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب الفلسطيني لن يذهب سُدى.