المقصود بالعرب هنا هو النظام الرسمي العربي، بصرف النظر عن أنّ مفهوم هذا النظام، ومدلولاته، أيضاً، في المعنى والمضمون، وفي الاصطلاح نفسه ينطوي على الكثير من عناصر الالتباس والإبهام، أيضاً.
بالجواب عن هذا العنوان، وفي إطار تحديد النظام الرسمي العربي فإنّ مثل هذا الخلاف سينفجر إذا اختارت الولايات المتحدة الأميركية الرؤية الإسرائيلية حول دور ومستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية، أو ما يطلقون عليه العامل الفلسطيني في إدارة قطاع غزّة.
لا أجد أنّ ثمة خلافات جدّية أو جوهرية إزاء كلّ تطورات هذه الحرب الدموية التي تدور منذ ثمانية أشهر، وما زالت تدور، وفشلت أميركا في وقفها حتى الآن سوى الموقف الأميركي من دور السلطة الوطنية الفلسطينية، أو من هذا "العامل" الفلسطيني.
وبالمناسبة فإنّ الولايات المتحدة ما كان لها أبداً أن تتبنّى التماهي مع مواقف دولة الاحتلال لو أنّ النظام الرسمي العربي اتخذ موقفاً واحداً صارماً في وجه أميركا.
والتماهي الأميركي مع كلّ المواقف الجوهرية الإسرائيلية، بما في ذلك تلك التي يناور بها رئيس حكومة الاحتلال الفاشية بنيامين نتنياهو نفسه كانت ستكون مستحيلة على أميركا لو أنّ النظام الرسمي العربي هدّد بالخروج عن المسار الأميركي، ولو لمرّة واحدة في حال استمرّ الموقف الأميركي بالخضوع لمواقف دولة الاحتلال كما يُعبّر عنها رئيس حكومتها، وليس غيره.
وخلاصة القول هنا هي أنّ أميركا كانت مع "الصفقة" في صيغتها الأخيرة، وكانت الولايات المتحدة هي من صاغت إطارها الشامل، وكانت موافقة على معظم نقاطها التفصيلية، بما في ذلك آليات ومراحل التنفيذ، ومع ذلك عادت وتبنّت الموقف الإسرائيلي الذي فوجئ بموافقة الفصائل الفلسطينية، وتراجع بصورة دراماتيكية عن التوقيع عليها، وتراجعت أميركا مباشرة عنها بعد التراجع الإسرائيلي.
إحدى أهمّ القضايا التي جعلت الموقف الأميركي على هذه الدرجة من "الإمَّعية" هي أنّها ــ أي أميركا ــ خشيت من انفجار الأزمة بصورة طاحنة في المرحلة الثالثة من الصفقة.
المرحلة الثالثة بالذات هي المسألة الأهمّ والأخطر في نتائج هذه الحرب الإجرامية على الصعيد السياسي المباشر، وعلى الصعيد الإستراتيجي العام من زاوية دور العامل، أو القوى الفلسطينية التي ستتولّى الإدارة السياسية للقطاع.
هنا مربط الفرس كما يُقال.
أميركا ترغب بأن يكون للسلطة الوطنية الفلسطينية دور حاسم في إدارة القطاع، ولكنها تشترط بأن يتمّ "تجديد" هذه السلطة و"تجديد" السلطة ليس له أيّ علاقة من قريبٍ أو بعيد بمسائل الديمقراطية أو ما يُقال حول الفساد، وليس له أيّ صلةٍ من أيّ نوعٍ كان ببرامج التنمية أو غيرها، وليس له بالتأكيد أيّ علاقة بتحالفات السلطة المحلية والعربية، أو الدولية، وإنّما ما تشترطه أميركا على السلطة هو درجة خضوعها للإملاءات، أو للتوجّهات والتصوّرات الإسرائيلية لهذا الدور، وليس غيره على الإطلاق.
أميركا لا يهمّها من حيث الجوهر فيما إذا كانت الصلاحيات موزّعة، أو مركّزة، ولا يهمّها أن تكون هناك انتخابات أم لا، وليست معنية جوهرياً ببرامج التطوير الاقتصادي، ولا بطرائق الإنفاق العام، ولا حتى بوسائل استغلال الموارد المالية.
كلّ ما يهمّ أميركا في هذا الشأن هو درجة استجابة السلطة للتوجّهات الإسرائيلية.
نعود الآن لمربط الفرس إيّاه.
كلّ من هو في حكومة الاحتلال، ومن دون أيّ استثناء لا يمكن أن يقبلوا وجود جهة فلسطينية رسمية أو شبه رسمية لتولّي إدارة القطاع.
وكلّ من هو في حكومة الحرب كذلك، وخصوصاً بعد إعلانات بيني غانتس الأخيرة التي أطلقها في طيّات تحذيره الأخير لنتنياهو بأنّه لن يقبل بدور حقيقي للسلطة الفلسطينية، فإذا كان موقف الأخير يقول إنه لن يستبدل "حماستان" بـ "فتحستان"، فإنّ غانتس نفسه، وعلى رؤوس الأشهاد ــ [لا "حماس"، ولا "عبّاس"].
وهنا فإنّ التماهي الذي شرحناه في المواقف الأميركية حيال التوجّهات والتصوّرات الإسرائيلية لمرحلة "ما بعد الحرب" ربّما سيسحب نفسه على هذه القضية بالذات.
أقصد إذا تبنّت الإدارة الأميركية المواقف الإسرائيلية من هذه المسألة، خصوصاً وأنّ "جماعة" الإدارة الأميركية في الحكومة الرسمية، وفي "حكومة الحرب"، وحتى في "المعارضة" من خارجها باتوا ضدّ "حماس"، وضدّ "عبّاس" فإنّ النظام العربي هنا، وهنا بالذات سيتمرّد على الموقف الأميركي في حال انسياقه وراء التصوّرات الإسرائيلية على هذا الصعيد المحدّد.
وأغلب الظنّ أنّ "التمرّد" العربي لا يتعلّق برفض أميركا لدور "حماس"، لأنّهم في الواقع لا يختلفون مع الأخيرة بصورة جدّية هنا، وإنّما يتعلّق الأمر بدور السلطة الفلسطينية تحديداً.
وبينما يحاول النظام العربي الرسمي أن "يُبرّر" لنفسه الموافقة على الموقف الأميركي النابع أو التابع للموقف الإسرائيلي في مسألة استبعاد "حماس" من واجهة إدارة القطاع إذا لم يكن ممكناً استبعادها كلّياً من هذه الإدارة، فإنّه ــ أي النظام الرسمي العربي ــ لا يمكن أن يوافق على استبعاد السلطة الفلسطينية لا من واجهة هذه الإدارة، ولا من خلفها أو جانبيها أو حتى من كامل سيطرتها عليها.
والسبب الأوّل والأهمّ لهذا الموقف "الحاسم" للنظام الرسمي العربي من هذه المسألة ليس لأنّه "يهيم" حبّاً بهذه السلطة، وإنّما بسبب أنّ "التضحية" الأميركية بالسلطة ليست سوى مقدّمة أو مؤشّر على "تضحية" أميركا بأيّ "سلطة" مهما كانت إذا كان على أميركا أن تختار بين الانحياز لهذه السلطة أو تلك، أو الانحياز للموقف الإسرائيلي منها.
ليس هذا فقط، وهذه المسألة على أهميتها الكبيرة فهي ليست الأهمّ في هذا الإطار.
الأهمّ هنا هو أن "تضحية" النظام العربي الرسمي بالسلطة الوطنية الفلسطينية هو قبول "رسمي" بمرحلة من الفوضى العارمة في الأرض المحتلة، وهو قبول سيعني تصدير الأزمة التي ستنشأ عن مثل هذا الواقع إلى المحيط العربي، وما سينجم عن هذا التصدير من أزماتٍ ستهدّد الواقع السياسي في هذا المحيط.
النظام العربي الرسمي يعرف أن درجة انحياز الجماهير العربية للمشروع الوطني، والنضال الوطني الفلسطيني هو انحياز كاسح، وأنّ هذا الانحياز أصبح اليوم في أعلى درجاته، وهذه الجماهير إذا رأت أنّ النظام العربي قد "ضحّى" بـ "حماس"، ثم ضحّى بـ "فتح"، من خلال التخلّي عن السلطة الفلسطينية، والتي هي في نهاية المطاف سلطة "فتح"، ثم قبل على نفسه أن ينجرّ وراء المواقف الأميركية، والتي هي نفس جوهر المواقف الإسرائيلية، وارتضى لنفسه أن تدخل [فلسطين] في حالة من الفوضى، وربما الفوضى العارمة، بعد كلّ هذه التضحيات التي دفعها الشعب الفلسطيني في حرب الإبادة الجماعية والتجويع، وبعد كلّ هذا الصمود، وكلّ هذه البطولة التي واجه بها العدوان الإسرائيلي في القطاع، وكذلك في كلّ الضفة الغربية والقدس، فإنّ هذه الجماهير ستتمرّد على هذا الواقع ولن تقبل به أبداً تحت أيّ ظروفٍ، وتحت أيّ مبرّرٍ كان.
هنا خشية النظام العربي الرسمي هي خشية حقيقية، وهنا لن تُستثنى من هذا الواقع دول غنية أو فقيرة، ولن يكون ممكناً أبداً "استغفال" الناس تحت يافطات سياسية أو دينية، أو طائفية أو حزبية أو غيرها.
وسينفجر الموقف، وسيفترق النظام العربي عن الولايات المتحدة في كلّ سياساتها في عموم الإقليم إذا ظلّت تخضع للتوجهات الإسرائيلية، خصوصاً وأنّ الواقع السياسي في دولة الاحتلال لا يُبشّر النظام الرسمي بأيّ "خير" كما كان هذا النظام يظنّ في الأيام الأولى لهذا العدوان، أو كما اعتقد من أنّ دولة الاحتلال ستحسم هذا العدوان في عدّة أسابيع قليلة.
النظام العربي ستعود به الذاكرة إلى ما بعد النكبة، وكيف أنّ هذه النكبة قد فجّرته آنذاك، وقلبت أو حاولت أن تقلب الأوضاع كلّها رأساً على عقب.
النظام الرسمي العربي أذكى من أن ينسى ما جرى، أو يتناسى ما جرى، وعسى أن تكون غلطة أميركا هي "غلطة الشاطر" الأخيرة.
إسرائيل المنبوذة وأميركا البلهاء
26 نوفمبر 2024