شهدت الأسابيع الماضية ما يمكن اعتباره تسونامي في الارتدادات الدولية عما ترتكبه حكومة الحرب الاسرائيلية من جرائم إبادة ضد شعبنا الفلسطيني في القطاع، حيث طلب النائب العام للجنائية الدولية استصدار قرار باعتقال كل من نتنياهو وغالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة ضد الإنسانية، كما أصدرت محكمة العدل الدولية قراراً ملزماً لإسرائيل يقضي بالوقف الفوري لهجومها على مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، وذلك بناء على طلب جنوب أفريقيا ضمن دعوى شاملة تتهم حكومة تل أبيب بارتكاب جرائم إبادة جماعية في القطاع.
التحولات الدولية ثمرة الصمود والتضحيات
كما جاء الإعلان المتزامن لكلٍّ من إسبانيا والنرويج وإيرلندا للاعتراف بدولة فلسطين، واحتمال أن تحذوها دول أُوروبية أخرى، ليحدث زلزالاً في إسرائيل التي تتعمق عزلتها الدولية على الصعيدين الشعبي والرسمي. وقد اعتبرت حكومة إسرائيل، التي تنزلق يومياً نحو الدولة المنبوذة، أن محكمتي الجنائية الدولية والعدل الدولية لاساميّتان، كما أشارت إلى الاعترافات الثلاثة بأنها مكافأة لحماس.
وإذا كان من الصحيح أنّ هذه التحولات النوعية قد جاءت بعد نحو ثمانية أشهر من المقاومة الشجاعة لحرب الإبادة التي يواصلها جيش الاحتلال، فإن صمود الناس، التي تتعرض لأبشع جرائم العصر منذ الحرب العالمية الثانية، كشف الطبيعة العنصرية للمشروع الصهيوني، وما ترتكبه إسرائيل من جرائم متواصلة منذ النكبة (1948)، واستكمال احتلال فلسطين التاريخية بعد حرب (1967) حتى اليوم، كما أنه وبالتوازي مع حرب الإبادة في غزة، فإن إسرائيل تواصل حرب السيطرة والاستيطان والضم والتطهير العرقي لحسم الصراع في الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة.
إسرائيل في قفص الاتهام الدولي
قرارات جلب إسرائيل للعدالة الدولية، وتحدي غطرسة الحماية الأمريكية لاحتلالها وعدوانها المستمر، وممارسة النفاق والنصب الدوليين إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبالقدر الذي تفتح فيه الباب لانهاء الحقبة الإسرائيلية كدولة فوق القانون، فإن الاعتراف بدولة فلسطين من جانب إسبانيا وإيرلندا والنرويج يحررها من الڤيتو الإسرائيلي على حق تقرير المصير، كما يحرر أيّ مسيرة سياسية مستقبلية، ومعها ما يسمى حل الدولتين، من أن يستمرّا كرهينة للعنصرية الاسرائيلية التي تواصل رفض الإقرار بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها الحق في تقرير المصير، بل وتُعيد إمكانية بناء أي مسار سياسي انطلاقاً من الإقرار المسبق بهذا الحق، وغيره من الحقوق المكفولة وفق قواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، كشرط لنجاح مثل هذا المسار وعدم تبديد الزمن بثلاثين عاماً أُخرى من التيه والتضليل وقضم الحقوق غير قابلة للمساومة أو التفريط من أيٍّ كان.
حبل المشنقة يُطبق على منظومة الاحتلال
حبل المشنقة يَضيقُ على عنق منظومة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، ومعه أيضاً يضيق مثل هذا الخناق على قدرة واشنطن من استمرار حمايتها لهذه المنظومة التي باتت في قفص اتهام العدالة الإنسانية، بما في ذلك في أوساط الرأي العام الأمريكي، الذي ولأول مرة يخرج على محاولات ربط العدالة لفلسطين بفزاعة معاداة السامية، سيما أن فئات واسعة من النخبة الأمريكية، بما في ذلك في الجامعات وأوساط المجتمعات اليهودية والناجين من المحرقة، تُوسّع من انخراطها ضد جرائم الابادة في غزة، وضد محاولات الادارة لحماية مرتبكي مثل هذه الجرائم.
لحظة الحقيقة وبزوغ فجر العدالة
الأسئلة التي ما تزال مطروحة هي: كيف يمكن للشعب الفلسطيني، بمختلف توجهاته، أن يُحَوِّل هذه التحولات الدولية إلى إنجازات سياسية تعمق عزلة إسرائيل، وتفتح الطريق لوقف الحرب والعدوان والاستيطان وانهاء الاحتلال، وتجعل من مسألة الاعترافات بدولة فلسطين حقيقة على الأرض، وليست مجرد مواقف سياسية وأخلاقية وقانونية على أهميتها؟ أليس اليوم هو اللحظة التاريخية التي علينا أن نعيد فيها حقيقة وحدة الكيانية السياسية والجغرافية على أراضي تلك الدولة التي تحصد الاعترافات بفعل بزوغ العدالة، والتي لم يكن لها أن تطل برأسها لولا الصمود الأسطوري لشعبنا الفلسطيني، ليس فقط في مواجهة هذه الحرب، بل وعلى مدار قرن من النضال منذ ما قبل النكبة؟ ألا يستحق شعب فلسطين قيادة موحدة وجادة تعبر عن تطلعاته، وتمثل كافة قواه السياسية وفئاته الاجتماعية التي تدفع أثماناً باهظة لنيل حقوقها؟
فرصة تدفيع إسرائيل ثمن جرائمها
نعم، هناك فرصة ثمينة وغير مسبوقة لتدفيع إسرائيل أثمان جرائمها وعنصريتها، بل وهناك فرصة لوحدة المؤسسات الوطنية الجامعة لتعزيز صمود شعبنا، واستنهاض طاقاته في كافة أماكن تواجده، وقادرة في الوقت نفسه على التلاقي مع الإرادة والتحولات الدولية إزاء استحقاقات انتزاع الحق في العودة وتقرير المصير، ودحر الاحتلال وتجسيد دولة الاستقلال.
حكومة وفاق.. وإلّا فجبهة إنقاذ وطني
إن هذا يتطلب وفي كل الأحوال الإمساك بمركزية الجهد لاستعادة مكانة منظمة التحرير الفلسطينية من فكي الانقسام والتفرد لمكانتها كجبهة وطنية عريضة تضم الجميع، وكممثل شرعي وحيد لشعبنا، وقائدة لنضاله الوطني. نحن أمام خيارين لم يعد فيهما متسع لاستمرار الانقسام والتفرد والمراهنة على الأوهام؛ إما الإسراع في تشكيل حكومة وفاق للإنقاذ الوطني تضع الجميع دون استثناء أمام مسؤولياته الوطنية التاريخية، أو الذهاب إلى جبهة وطنية للإنقاذ، بمشاركة كل المستعدين للانخراط في صفوفها، لتفتح انسدادات الطرق الإجبارية في مسار عملية التحرر الوطني والبناء الديمقراطي لمستقبلنا في هذه البلاد.