جوابي عن هذا السؤال هو.. نعم كبيرة؟
والسبب ليس ما يتمّ تسريبه في وسائل الإعلام من أن أطرافاً في «المعارضة» الإسرائيلية قد اتفقت فيما بينها على إسقاط الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، وإنما لأن هذه «المعارضة» أصبحت على قناعة تامّة بأن هذه الحرب ستمتد إلى ما لا نهاية، وأصبحت على قناعة أكبر بأن الولايات المتحدة الأميركية تسمعهم ــ أي تُسمع «المعارضة» ــ معسول الكلام في الغرف المغلقة، ولكنها ليست على استعداد حقيقي لحسم هذه المسألة بالتوافق التام مع هذه «المعارضة» بوساطة إجراءات وخطوات عملية ملموسة.
صحيح أن الولايات المتحدة بودّها أن تسقط هذه الحكومة، لكنها ليست متوافقة مع أحد للقيام بخطوات محدّدة لأنها تخشى من «عواقب» هذا الإسقاط على الحالة الإسرائيلية بما قد يودي بكلّ شيء، وبما يمكن أن يؤدّي إلى فوضى عارمة في دولة الاحتلال، وصولاً إلى خروج الفوضى عن السيطرة، والدخول في أحداث داخلية سيستحيل الإمساك بها.
باختصار لن تبادر أميركا بصورة مباشرة إلى الإقدام على إسقاط هذه الحكومة، لكنها لن تتردّد على ما يبدو في دعم وإسناد، وربما بصورة غير مباشرة لـ»المعارضة» إذا حزمت أمرها بهذا الاتجاه، وأغلب الظنّ أن هذا الاتفاق سيخرج إلى حيّز التنفيذ عندما يتم التوافق الرسمي بين يائير لابيد، وجدعون ساعر، وأفيغدور ليبرمان، مع كل من بيني غانتس وغادي أيزنكوت، ومعهما أربعة أو خمسة أعضاء من «الليكود» أو غيره لحدوث الانقلاب في التصويت على هذه الحكومة، وخلال الأسبوعين القادمين.
قلنا في مقالات سابقة كثيرة إن المجتمع السياسي في دولة الاحتلال هو مجتمع فاسد، ويسعى إلى الإمساك بالعصا من الوسط في كل الأحوال، وإن ما يحركه ليس مصلحة «الدولة» كما يدّعون كلّهم، وإنما ما يحركهم هو المصالح الانتخابية، واستطلاعات الرأي، و»مستقبلهم» السياسي من هذه الزاوية بالذات، وليس من أي زاوية أخرى.
والحقيقة، أيضاً، أنّهم بهذا المعنى لا يختلفون عن نتنياهو بشيء جوهري واحد، وذلك لأنّ الأخير هو بدوره ينطلق من نفس الاعتبارات، ويبحث عن طريق «للنجاة»، وهو يواصل عدوانه لأنّه ليس لديه بعد من مخرج يؤدي به إلى برّ الأمان، والاختلاف الوحيد الحقيقي بينهم وبين نتنياهو أن هذا الأخير باتت كل الخيارات أمامه صعبة، وضاقت لديه الهوامش، والمصائب من حوله تزداد كل يوم، وكل خيار لديه أصبح يؤدي إلى خيارات أصعب فأصعب، ولم يعد لديه سوى الاستمرار بالحرب لأنها الخيار الوحيد الذي لا يُلزمه بأي خيار آخر، طالما أنها مستمرة، وطالما أنه من خلال تواصلها يتابع ويواصل تلاعبه بالمجتمع والدولة في إسرائيل.
الأطراف السياسية المكونة للائتلاف الحكومي هي مجموعة من عُتاة الدجّالين، إضافة إلى تطرّفهم وعنصريتهم وفاشيتهم.
وهم مجموعة وصولية وانتهازية تمارس أقصى وأبشع أنواع الابتزاز ضد المجتمع و»الدولة» في إسرائيل، وضد بعضهم البعض، وضدّ كل من يحاول المسّ بمصالحهم بمن في ذلك أولياء نعمتهم.
الخراب في المجتمع السياسي أكبر بكثير مما تبدو عليه الأمور في الإعلام الإسرائيلي، وهذا الخراب ليس له أي مثيل في أي دولة أخرى من الدول ذات التوجهات الليبرالية، أو حتى الديكتاتوريات المغلّفة بالديمقراطية «الشكلية» التي تسود الآن في دولة الاحتلال.
«التحالف» بين الليبرالي العلماني، مع القومي والديني، العنصري والفاشي مع المستوطن الكهاني لا يجمعهم نسق فكري أو ثقافي، ولا يجمعهم نمط معيّن من طبيعة النظام السياسي، ولا تجمعهم بالتأكيد قواسم مشتركة حقيقية في مجال هوية الدولة أو نمط العلاقات الاجتماعية والثقافية في المجتمع الإسرائيلي.
القاسم المشترك الأعظم بين كل هؤلاء هو المصالح الحزبية الخاصة، وكل ما نسمعه من خطابات «أيديولوجية» ليست سوى «عدّة النصب» السياسية التي يحصلون بموجبها على تلك المصالح، ويسعون من خلالها إلى الحفاظ على تلك المصالح.
وحال «المعارضة» في دولة الاحتلال لا يختلف جوهرياً عن حال المكوّنات الرئيسة في الائتلاف الحكومي.
البند الأهمّ الذي يمكن الاعتداد به على هذا الصعيد هو مسألة هوية المجتمع والدولة في إسرائيل.
الأطراف التي يمكن أن تُسقط حكومة نتنياهو، هي أطراف متطرفة وعنصرية، ومعادية للسلام والتعايش مع الشعب الفلسطيني، وهي لا تختلف كثيراً أو جوهرياً مع الحكومة الإسرائيلية حتى في حرب الإبادة والتهجير والتجويع، وهي مع التطهير العرقي، ومع القتل، ومع ارتكاب أبشع أنواع الجرائم، ولكنها ترفض أن يخرج كيانهم من مصاف النظام الليبرالي العالمي، ولا يريدون أن يكون النظام السياسي نظاماً ديكتاتورياً معادياً للحرّيات، ومعادياً لمبادئ تداول السلطة، أو نظاماً تتحكّم به القوى المعادية للديمقراطية والليبرالية، وذلك لأن هذه القوى تعتبر كل من هو علماني أو ليبرالي أو حتى ديمقراطي خطراً عليها، وعلى مستقبلها «السياسي»، وعلى درجة تحكّمها بالدولة والمجتمع، والأهمّ من ذلك كله الخطر الذي تراه هذه القوى من بقاء هوية دولة الاحتلال هوية ليبرالية، أو علمانية أو حتى هوية ديمقراطية.
هم لا يريدون أن يتعايش كيانهم مع الإقليم، أو حتى مع دول العالم إلا من خلال شروطهم، ومن خلال فرض هذه الشروط على الإقليم، وعلى العالم، أيضاً.
أما القوى الأخرى فإنّها تراهن على التعايش مع الإقليم ومع العالم بتحقيق أعلى درجة ممكنة من «المصالح القومية» الإسرائيلية، وهم على ما يبدو حتى الآن على الأقل على استعداد للمساومة في هذا الهامش بالذات، وبما يمنع بكلّ الوسائل إعطاء الشعب الفلسطيني أو «التنازل» إلى درجة حصوله على هذا الحقّ، وبهذا المعنى، أيضاً، فإن إسقاط حكومة نتنياهو لن يغيّر شيئاً جوهرياً في معطيات الصراع مع المشروع الصهيوني، ولكنه قد يغيّر شيئاً في واقع الحرب التي تدور في، وعلى الأرض الفلسطينية، أو قد يغيّر في مسارها ووسائلها، ولكن ليس في وظيفة ودور وضرورة استمرارها مستقبلاً في ظروف أخرى، وفي معطيات جديدة.
وحتى لو أنها ــ أي ما تسمّى «المعارضة»، ومن سينضمّ لها ــ أجبرت على مساومة حول شروط نهاية العدوان فإنّها ستقدم عليه بكلّ شيء ممكن لأنها لا تعتبر نفسها مسؤولة عن «طوفان الأقصى»، وليست مسؤولة بصورة مباشرة عن كلّ ما تبع هذا العدوان من فشل وإخفاقات، ولا طبعاً عمّا كانت عليه الأمور ما قبل الفشل المدوّي لدولة الاحتلال قبل العدوان.
أقصد أنّ «المعارضة» أصبحت صاحبة مصلحة مباشرة في فتح تحقيق حقيقي في هذا العدوان من حيث مقدّماته، واندلاعه وسيره، وفي تبعاته على كل المستويات، وعلى مختلف المديات.
في حين أن الائتلاف الحاكم ليس فقط ليس له أي مصلحة في ذلك كله، وإنما ليس له أي خيار سوى باستمراره، ببساطة لأنه ليس له خيار سوى هذا الاستمرار.
من الزاوية الفلسطينية فإنّ لنا مصلحة وطنية كبيرة في وقف هذا العدوان، ولكن يبدو أننا لا نملك نفس المصلحة من زاوية إستراتيجية الصراع مع المشروع الصهيوني، لأنّ حمقى دولة الاحتلال كان لهم ــ دور بارز ــ في أزمتها، وفي فشلها وإخفاقها.
وسيكون صعباً على «عقلائها»، والقول هنا هو للمجاز فقط، أن يقدّموا لنا نفس «الخدمات» التي قدّمتها لنا مجموعة الحمقى التي ما زالت تُدخل كيانهم في صبيحة كل يوم جديد بمجموعة من المصائب المتتالية، وهنا لا بدّ من عودة.