وقـف حـرب الإبـادة

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

بقلم : عاطف أبو سيف


 

يجب النظر بإيجابية لكل الجهود الهادفة لوقف إطلاق النار الذي يتعرض له قطاع غزة؛ من أجل وقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال بحق شعبنا. 
إن ما يجري من مذبحة مستمرة منذ قرابة ثمانية أشهر يجب أن يتوقف، وثمة نضوج دولي في هذا الاتجاه يجب استثماره. وهذا الاستثمار هو بحد ذاته انتصار لإرادة شعبنا وقدرته على إفشال مخططات العدو بإنهاء الوجود الفلسطيني في قطاع غزة. لنتذكر أهداف العدوان الأولى المتمثلة بترحيل سكان قطاع غزة نحو سيناء، وزرع المستوطنات داخله، ومحو الشمال وتحويله إلى متنزه من أجل أن ينعم أبناء المستوطنين بساحل غزة الرملي، وتصورات مختلفة كلها كان تعني مسح قطاع غزة عن الوجود.
إن وقف الحرب يعني وقف المقتلة، يعني أن كل هذا لن يحدث. مع وجوب الإشارة إلى أنه لم يحدث بسبب رفض شعبنا الخروج من البلاد، فهو لا يريد بلاداً إلا بلاده، ونحن نحب كل دول الجوار لكننا نحب فلسطين أكثر. ومع ذلك، فإن ما جرى طوال الشهور الماضية يجب أن يتوقف؛ لأن بقاءنا في البلاد يجب أن يكون هو الهدف الإستراتيجي لنا، ولأن شعبنا في غزة الذي عاني الكثير ودفع فواتير باهظة بحاجة لأن يشعر بأن ثمة نهاية لكل هذه المقتلة، وأن نهاية النزوح ليست البقاء في مكان النزوح، بل العودة إلى الديار حتى لا تصبح العودة للشمال مثل العودة لفلسطين. 
صحيح أن الثمن الذي دفعه الفلسطينيون مرتفع في هذه الحرب؟ ولكن في المحصلة فإن إنهاء الحرب يجب أن يظل أولوية كبرى بالنسبة للكل الفلسطيني؛ لأن الدم الفلسطيني الذي يراق كل يوم والدمار الذي تحدثه آلة القتل الإسرائيلية سيكون مكلفاً على المدى البعيد، خاصة مع الحاجة لإعادة بناء القطاع ربما من الصفر. وبقدر ارتفاع الثمن وصعوبة الوضع، فإن الحد من المزيد من الدمار والقتل بحد ذاته هو انتصار للإرادة الفلسطينية التي يجب أن ترى في الحفاظ على ما تبقى من الإنسان ومن المكان أولوية يجب السعي خلفها، وهو ما يشكل نقطة انطلاق للمستقبل من أجل أن نحافظ على وجود شعبنا ومقدراته.
وصحيح أن مواقف العالم لا تعني انتصاراً لمواقفنا ومطالبنا الوطنية، بل هي ردة فعل على حجم المجازر البشعة التي ارتكبت في القطاع، ولا يمكن مثلاً تخيل خطاب بايدن، أول من أمس، قبل الصور المكثفة والبشعة التي خرجت بعد الانسحاب التكتيكي للجيش الإسرائيلي من جباليا. دائماً تكون الصور صادمة، لكن هذه المرة كان صادمة بصورة مستفزة للعالم، خاصة الجماجم والأطفال المتفحمين والدمار الشامل. 
بات واضحاً للعالم كما نعرف نحن من أول يوم أن المستهدف هو هدم القطاع وتدميره، وتهجير السكان وقتل أكبر عدد ممكن منهم. لا يوجد هدف حقيقي آخر إلا هذا الهدف، وهذا يتناسق مع السردية الوطنية التي تعرف أن هدف الصهيونية منذ فجر المشروع الإحلالي الكولونيالي كان تدمير البلاد ومحوها وقتل الفلسطيني وإزالته. الصور من جباليا كانت تقول ذلك، وتقوله بسخرية من العالم وعدم مبالاته، وهذا وحده ما حرك القليل من بلادة إدارة بايدن. ومع ذلك يجب استغلال ذلك من أجل حماية شعبنا من المزيد من القتل والتشريد.
لقد اعتمدت النكبة على نفينا وإبعادنا عن الأرض، وقامت العصابات الصهيونية باقتلاعنا من قرانا ومدننا، ودمرت تلك المدن والقرى وغيرت أسماءها، وحاولت كل جهد من أجل ألا يكون ثمة رابط بيننا وبين المكان سواء بقتلنا أو بنفينا خارج المكان، كما من خلال تدمير المكان ومحوه بشكل نهائي من الوجود. لكن هذا لم ينجح لأننا تمكنا من البقاء ولم نفنَ ولم نزل ولم نصبح نسياً منسياً، بل واصلنا وجودنا. صحيح أنه تم اقتلاع مئات الآلاف من أبناء شعبنا، وتمّت إزاحة جزء كبير خارج حدود البلاد، لكن مع ذلك طالما بقينا بقيت البلاد، وطالما واصلنا وجودنا ظلت البلاد تنتظرنا. 
هناك الكثير الذي ينتظرنا في الطريق، وهناك مهام صعبة وعسيرة وربما حوّلها الدمار لمهام شاقة، لكنها ممكنة رغم كل شيء. بالطبع الحديث هنا يدور حول إعادة بناء القطاع، وأنا لا أقول إعمار؛ لأن الحالة المزرية التي خلّفها الاحتلال بحاجة لإعادة تكوين المكان. إن إعادة بناء قطاع غزة بحاجة لجهود كثيرة، وبحاجة لمساهمات مالية كبيرة ربما تتحول مع الوقت إلى اشتراطات ومواقف يجب دفعها، لكن في كل الأحوال يجب أن تكون مهمة إعادة ما هدمه الاحتلال الهدف الأساسي الذي علينا أن نسعى خلفه من أجل انتظام العملية التعليمية التي تعطلت لأول مرة في التاريخ الوطني الحديث، كما إعادة بناء القطاع الصحي من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. إن غاية كل هذا هو أن يكون المستقبل أجمل والحياة ممكنة في القطاع الذي حوّله الاحتلال إلى جحيم. 
وربما المهمة السابقة لكل هذا بالطبع هي استعادة الوحدة الوطنية أو إحياؤها بعد موتها لأكثر من سبعة عشر عاماً. نعم ثمة حاجة للانخراط في حوار وطني شامل من أجل استعادة الحالة الوطنية الشاملة. لن يكون بمقدورنا الاقتتال مرة أخرى بعد أن تدمرت غزة، وليس من الوطنية أن نختلف حول كيف يكون القطاع بعد أن تحوّل إلى كومة من خراب وحجارة. الحاجة ملحة الآن من أجل عودة العلاقات الوطنية الداخلية إلى وضعها الصحي. ثمة نقاش وطني حقيقي وعميق وصريح لا بد أن يجري بعد ذلك من أجل أن نجنّب شعبنا المزيد من الكوارث، ومن أجل ألا يتم ترك مصيرنا بيد أي مجازفات مستقبلية. علينا أن نكون واضحين في ذلك وأن نملك الجرأة من أجل أن نقف بصدق أمام المرآة ونرى الماضي بعيون المستقبل الذي نريد لا العكس.