فيروسات الزومبي.. وباء مدفون تحت الجليد منذ آلاف السنين

فيروس-زومبي-صورة-1693996382.webp
حجم الخط

وكالة خبر

بعد حصوله على درجة الدكتوراه عام 1977، عمل “جان ميشيل كلافيري” في كلية الطب بجامعة “إيكس” جنوبي فرنسا، وهناك أنشأ في التسعينيات مختبرا جديدا مع زوجته وزميلته الدكتورة “شانتال أبيرجيل”، ويشتهر هذا المختبر بدراساته عن نوع مختلف من الفيروسات، وهي فيروسات عملاقة كان اكتشافها في عام 2003 بمثابة تحدّ كبير لعدد من المفاهيم الأساسية في هذا النطاق.

إلى هنا كان كل شيء طبيعيا في الحياة العملية الناجحة لـ”كلافيري”. لكن منذ مطلع الألفية اهتم بشدة بمنطقة محددة، وهي سهول التربة الصقيعية شمالي شرق سيبيريا، فهناك كان يبحث عن شيء ربما لم تتصور أنه يمكن أن يكون موجودا من الأساس؛ كائنات جمدتها الثلوج لمدة آلاف السنوات، سماها البعض “فيروسات الزومبي”.

وتُعرف التربة الصقيعية بأنها أي أرض تظل مجمدة تماما في درجة الصفر المئوية أو ما هو أقل، لمدة عامين متتاليين على الأقل. هذه الأراضي المتجمدة بشكل دائم تغطي خمس نصف الكرة الشمالي.

“بيتوفايروس سايبيريكوم”.. عودة بعد 30 ألف عام من السبات

قبل آلاف السنين عاشت في تلك البيئات كائنات حية عدة، وتعد تلك المنطقة الآن كبسولة زمنية حافظت على بقايا محنطة لعدد من الحيوانات المنقرضة بشكل ممتاز، ليس ذلك فقط بسبب أنها باردة جدا، بل لأنها كذلك بيئة خالية من الأوكسجين ولا يخترقها الضوء.

أما الآن فقد أصبح الوضع مختلفا، إذ ترتفع حرارة العالم يوما بعد يوم، وترتفع درجات المناطق القطبية بمعدل أسرع بأربع مرات مقارنة ببقية الكوكب، مما يؤدى إلى ضَعف الطبقة العليا من التربة الصقيعية في هذه المناطق، وهنا تحديدا يجيء دور “كلافيري”.

فقد استطاع عام 2014 إعادة إحياء فيروس عمره 30 ألف عام، أطلق عليه اسم “بيتوفايروس سايبيريكوم” (Pithovirus Sibericum)، وقد عثر عليه مجمدا في طبقة عميقة من التربة الصقيعية بمنطقة كوليما في الشرق الروسي الأقصى.

والمثير للانتباه أن هذا الفيروس أصبح قادرا على العدوى فور إعادته للحياة، فيصيب الأميبا ولا يهاجم الخلايا البشرية أو الحيوانية، وذلك ما يجعله آمنا بالنسبة للعلماء في الدراسة.

إعادة إحياء الفيروسات.. كائنات حية مجمدة منذ آلاف السنين

ويشير اصطلاح إعادة إحياء الفيروسات إلى عملية إعادة الفيروس الخامل أو غير النشط إلى النشاط مرة أخرى، ويمكن القيام بذلك في بيئة معملية لأغراض بحثية، مثل دراسة خصائص الفيروس وسلوكه، وهو نطاق علمي سابق للمكتشفات المتعلقة بالفيروسات القديمة جدا.

ومن طبيعة بعض أنواع الفيروسات أنها تدخل في حالة سبات إن لم تجد عائلا تتطفل عليه، وإذا توفرت الظروف المناسبة، مثل وجوده في التربة الصقيعية، بعد تفاعله مع الجهاز المناعي لحيوان أو حشرة ماتت منذ فترة طويلة، فإنه يمكن للفيروس أن يستمر لآلاف السنوات في هذا الوضع من السكون.

ومن تلك النقطة ظهر الاسم الشعبي الذي يطلَق على هذه الكائنات القديمة، وهو “فيروسات الزومبي”، لكن الاسم مضلل بعض الشيء، لأنه يرتبط -كما ترى- بأفلام الإثارة والرعب، وهي عادة ما تتحدث عن انتشار للموتى أحياء على كوكب الأرض، لكن الفيروسات المكتشفة على العكس تماما من ذلك، فهي آمنة بالنسبة للبشر.

ويعد “بيتوفايروس سايبيريكوم” أحد أكبر الفيروسات التي اكتشفت على الإطلاق، إذ يبلغ طوله حوالي 1.5 ميكرومتر (واحد ونصف من المليون من المتر)، وهو بحجم بكتيريا صغيرة تقريبا، وينتمي إلى مجموعة تُعرف باسم “الفيروسات العملاقة”، وهي فيروسات يمكن أن يراها العلماء تحت المجهر الضوئي، وتظهر على شكل بيضاوي سميك الجدران مع فتحة في أحد الطرفين.

فيروسات سيبيريا.. كنوز من الماء وصوف الماموث وأمعاء الذئاب

في نوفمبر/تشرين ثاني 2022، حقق “جان ميشيل كلافيري” وفريقه رقما قياسيا جديدا، وهو اكتشاف وإعادة إحياء فيروس عاش قبل حوالي 48.500 سنة، وقد سمي “باندورافايروس ييدوما” (Pandoravirus Yedoma)، ويكون بذلك أقدم فيروس أعيد إحياؤه من التربة الصقيعية حتى الآن، وثاني أكبر الفيروسات المعروفة.

ويحدد الباحثون عمر الفيروسات المحبوسة في التربة الصقيعية باستخدام تقنيات الكربون المشع، وتعتمد الفكرة على حقيقة أن الكائنات الحية بكل أشكالها تمتص في أنسجتها ما يسمى “الكربون المشع 14” (وهو نظير عنصر الكربون العادي الذي رقمه 12).

وعندما تموت الكائنات الحية، يبدأ الكربون 14 في التحول إلى ذرات أخرى مع مرور الوقت، ويمكن للعلماء عبر عمليات حسابية دقيقة تقدير الزمن منذ أن مات الكائن الحي، وذلك عن طريق حساب التحولات الحاصلة في ذرات الكربون المشع 14 وتقدير ما بقي منها.

وقد اكتشف فيروس “باندورا” في رواسب جليدية تحت بحيرة في “يوكيتشي ألاس” في الشرق الروسي الأقصى، وهو واحد فقط من 13 فيروسا وصفتها الدراسة التي نشرها هذا الفريق بدورية “فايرسز”، وقد وُجدت جميعها في عينات من ماء قديم، وصوف ماموث، وأمعاء ذئب سيبيري، كانت مدفونة تحت التربة الصقيعية، وجميع هذه الفيروسات لا تصيب إلا الأميبا فقط، ولا يوجد لها أثر ضار على الإنسان أو الثدييات بشكل عام.

ويسمى هذا النطاق الآن “علم الفيروسات القديمة” (Paleovirology)، ويهتم بدراسة الفيروسات التي عاشت قبل آلاف السنين ثم أعيد إحياؤها من أجل دراستها، وللعلماء حجج وجيهة في ذلك، فهم لا يعبثون بتلك الفيروسات على سبيل التسلية، ولكن الفكرة الأساسية أن عالمنا يحترّ، ويوما ما ستنكشف تلك التربة للعراء والشمس، ويمكن لكائنات حية دفنت بها قبل آلاف السنين وعاشت في عالم غير عالمنا تماما أن تنشط مجددا.

عودة الجمرة الخبيثة.. فيروس من حيوان ميت منذ 75 عاما

يقدر العلماء أن 30% إلى 70% من التربة الصقيعية قد تذوب قبل عام 2100، والأمر بدأ يحدث الآن، فقد أشارت ورقة بحثية نشرت مؤخرا إلى أن درجات الحرارة ارتفعت بما يصل إلى 0.7 درجة مئوية منذ عام 2000، والمشكلة أنها ترتفع بمعدلات متسارعة، فيكون ذوبان الجليد كل عام أكبر من سابقه. فقبل عدة أعوام على سبيل المثال، ظلت درجات الحرارة في فصل الخريف في “سفالبارد” (أرخبيل نرويجي في المحيط المتجمد الشمالي) أعلى من الصفر طوال شهر نوفمبر، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها هذا في السجلات.

وفي هذا السياق، يمكن أن نتأمل ما حصل في شهر يوليو/تموز عام 2016، حين بدأت مجموعة من رعاة الرنة البدو في التساقط واحدا تلو الآخر، بسبب مرض غامض أثار الرعب في منطقة سالخارد الروسية في الدائرة القطبية الشمالية، وفي المجمل أصيب 72 شخصا من بينهم 41 طفلا، ونفق أكثر من 2300 من حيوانات الرنة في المنطقة، وبُنيت منطقة حجر صحي لمنع تفشي هذا المرض الغامض، ثم بعد عدة أسابيع من البحث تبين أنهم أصيبوا بالجمرة الخبيثة والطاعون السيبيري.

ويمكن لبكتيريا مثل الجمرة الخبيثة أن تعيش في بقايا الإنسان والحيوان المجمدة مئات السنين في حالة من السبات في انتظار أن تنطلق عندما يذوب الجليد، وهذا ما حدث، فقد اكتشف الباحثون والأطباء أن تلك الجراثيم انطلقت من حيوان رنة مات قبل 75 عاما وتجمد في الثلوج، لكن مع الاحترار العالمي الذي نواجهه الآن بدأت تلك الثلوج تذوب يوما بعد يوم، وفي لحظة ما تحررت تلك الجراثيم من هذا الحيوان وأصابت الناس والبهائم.

ذوبان الأنهار الجليدية.. تنوع قد يحمل أمراضا لا يعرفها الإنسان

في أكتوبر/تشرين الأول 2022 أشار تحليل جيني للتربة ورواسب البحيرات قادم من بحيرة هازن (أكبر بحيرة للمياه العذبة في القطب الشمالي في العالم) إلى أن خطر انتشار الفيروسات قد يكون أعلى مع ذوبان الأنهار الجليدية. وأشارت النتائج التي نشرت في دورية “بروسيدنغ أوف رويال سوسايتي-ب” أنه بسبب تغير المناخ، سيصبح من المرجح أن تنطلق الفيروسات والبكتيريا المحبوسة في الأنهار الجليدية والتربة الصقيعية، وتصيب الحياة البرية المحلية.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، أكد فريق بحثي من جامعة “أبيريستويث” البريطانية أن مئات الآلاف من أطنان البكتيريا تُطلق عن طريق ذوبان الأنهار الجليدية كل عام، وهذه البكتيريا يمكن أن تكون مفيدة لأنها ستُخصب النظم البيئية وتجعلها أكثر تنوعا وأكثر قوة، ويمكن كذلك أن تستخدم لاستخلاص أدوية جديدة، لكنها في المقابل قد تكون مسببات لأمراض لم نسمع بها من قبل.

وقد جمع علماء هذا الفريق المياه السطحية الذائبة من ثمانية أنهار جليدية في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، ومن موقعين على الغطاء الجليدي في غرينلاند، ووجدوا عشرات الآلاف من الميكروبات في كل ملليلتر (سم مكعب) من الماء.

وفي هذا السياق، يرى العلماء الذين يدرسون تلك الكائنات القديمة ومنهم “كلافيري” أن فهم طبائع تلك الكيانات الغريبة على حضارتنا وفحص نقاط ضعفها وقوتها، ربما يكون درعا نستخدمه يوما ما للحيلولة دون إصابة البشر أو إصابة ما يعتمدون عليه من نباتات وحيوانات.

وينشط هذا العمل البحثي حاليا، بعد أن اكتشف باحثوه عددا من الفيروسات والبكتيريا التي عاشت قديما على الأرض، ثم عادت مرة أخرى لنشاطها.