على هامش قمة الدول السبع في إيطاليا، أعلن الرئيس الفرنسي أنه اتفق مع الرئيس الأميركي على العمل في "إطار ثلاثي" يضم أيضاً إسرائيل، بغية إنهاء المواجهات بين جنوب لبنان وشمال إسرائيل، والأهم لمنع انزلاق التوتّر المتصاعد إلى "حرب شاملة". كيف يمكن ذلك وقد طرح وسطاء أميركيون وفرنسيون، طوال الشهور الماضية، صيغاً للتهدئة ولتسويات حدودية مبنية على القرار الدولي 1701 (صدر بعد حرب 2006 وظلّ معظم بنوده من دون تنفيذ)، لكنهم لم يتوصّلوا إلى أي نتيجة. عرفوا السبب ولم يكونوا هم ولا حكوماتهم مخوّلين الاعتراف به. إذ كان "حزب إيران/ حزب الله" قد بادر غداة السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، مع فصيلي "حماس" و"الجهاد" اللذين يستضيفهما في لبنان، إلى إطلاق صواريخ على إسرائيل، وأعلن أنه فتح الجبهة لمساندة غزّة، ولم يقلْ يوماً إنه فعل ذلك لاستدراج ترتيبات أمنية وحدودية مع إسرائيل. وقد أدّى "العجز" الأميركي عن إنهاء الحرب على غزّة إلى مراكمة التوتّر والتصعيد في جنوب لبنان وصولاً إلى احتمال نشوب حرب واسعة قد ترى إيران مصلحة فيها.
لم يرفض "الحزب" العروض والاقتراحات التي جاء بها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، أو تلك التي حملها مبعوثون فرنسيون. طرح الأميركي أفكاراً لحلّ الخلاف على نقاط حدودية برّية، مستنداً إلى نجاح حققه بترسيم الحدود البحرية عام 2022، لكنه لم يتمكّن من إقناع الجانب الإسرائيلي بإنهاء احتلاله منذ عام 1967 مزارع شبعا ثم لاحقاً تلال كفرشوبا والمناطق اللبنانية المجاورة بذريعة أنها أُخذت وقتها من الجيش السوري، وامتنعت دمشق منذ عام 2000 عن تقديم أي وثائق أو خرائط إلى الأمم المتحدة تثبت أن هذه الأراضي لبنانية. أما فرنسا فاقترحت خريطة طريق تبدأ بوقف إطلاق النار، وتتضمن مفاوضات على ترتيبات أمنية لتنفيذ القرار 1701 وانسحابات عسكرية من جانبي الحدود، بحيث يتراجع مقاتلو "حزب الله" إلى عمق عشرة كيلومترات وتكون المنطقة في عهدة الجيش اللبناني وقوات "اليونيفيل" الدولية.
كانت المبادرتان الأميركية والفرنسية متكاملتين، وكان في الإمكان تفعيلهما إلا أنهما تشترطان وقف إطلاق النار أولاً، غير أن "الحزب" اشترط وقف الحرب على غزّة أولاً. وهذا هو الشرط الذي اصطدمت به واشنطن في مفاوضاتها غير المباشرة مع طهران لإقناعها بعدم توسيع الصراع، وبالتالي وقف هجمات "حزبها" اللبناني على إسرائيل وصواريخ "جماعتها" اليمنية على السفن التجارية في البحر الأحمر. واعتبرت إيران أن المساعي الأميركية والغربية هدفت دائماً إلى "حماية" الحرب الإسرائيلية على غزّة ودعمها حتى "تحقيق أهدافها". ومعروفٌ أن الهدف الرئيسي هو "القضاء على حماس" وفصائل المقاومة في القطاع، ولم تخفِ إسرائيل منذ بدء الحرب أنها تريد تصفية قادة الفصائل وتدمير بنيتها العسكرية، ما يعني عملياً تجريد إيران من كل أوراقها في الملف الفلسطيني.
مع وصول الزحف العسكري الإسرائيلي إلى رفح، ازداد الخطر على "حماس"، وبات مصيرها مسألة وقت. لكن ازداد في المقابل خطر "الحرب الشاملة"، إذ تجاوزت المواجهة في جنوب لبنان "قواعد الاشتباك"، وتضاعفت هجمات الحوثيين، وعاد عددٌ من الميليشيات العراقية ينشط استعداداً لعمليات ضد إسرائيل. تلوّح إيران بهذه الحرب الشاملة وتتشدّد بضرورة إنهاء الحرب على غزّة، وهو ما تعبّر عنه "حماس" في تعاملها مع "مقترح بايدن" للهدنة وتبادل الأسرى، إذ إن قبولها بوقف نار موقّت في المرحلة الأولى، من دون ضمان وقف نار دائم في المرحلة الثانية، يعني قبولها باستمرار الحرب حتى دخول الإسرائيليين آخر نفق لها في رفح. تعرف إيران أن القدرات العسكرية لفصائل غزّة تراجعت، ولا تريد المجازفة باحتمال تصفية المقاومة في القطاع، لكنها لا تتدخّل مباشرة بل تلجأ إلى الخيار الجاهز وهو "تشغيل الساحات"، وأهمها جبهة جنوب لبنان.
في بداية الحرب أرسلت الولايات المتحدة حاملات طائرات وقطعاً بحرية تحسباً لتوسّع المواجهات خارج غزّة، ثم سحبتها بناءً على تفاهمات غير معلنة مع إيران. وعلى رغم وحشية التدمير الإسرائيلي في شمال القطاع وجنوبه، فإن واشنطن واصلت دعم الحرب بلا تحفّظ، ثم أصبحت لديها فجأة شروط على اجتياح رفح. صحيح أنها خشيت التوسّع الإسرائيلي في الإبادة الجماعية فطلبت إجلاء المدنيين ثم مرّرت وقائع كقصف مخيمات النازحين مكتفية بطلب "إيضاحات" إسرائيلية، بل مرّرت مجزرة مخيم النصيرات بسبب مشاركتها في عملية تحرير أربعة من الرهائن الإسرائيليين. أما بالنسبة إلى رفح فظلّت واشنطن تؤيّد علناً هدف "القضاء على حماس"، لكن مصادر عديدة تعزو تحفظاتها إلى حساباتها مع طهران، وإلى تحسّبها من ردود فعل إيران يمكن أن تستبق أو تستغلّ نتائج اجتياح رفح.
كان واضحاً أن المواقف من حرب غزّة تركّزت في قمة إيطاليا على الدعوة إلى الضغط على "حماس" لتقبل الهدنة المقترحة، واعتبرت الدول السبع أن هناك قبولاً إسرائيلياً (لم يُعلن) والتزمت الغموض بالنسبة إلى العبارة الذهبية: "إنهاء الحرب". أما التصعيد في جنوب لبنان فاحتلّ حيّزاً مهماً في القمة لأنه بلغ مرحلة متقدمة من الخطورة مع تصميم إسرائيل على عملية عسكرية واسعة تتضمّن دخولاً برّياً إلى الأراضي اللبنانية. وكان "حزب إيران/ حزب الله" قد ضاعف منسوب التصعيد خلال الأسابيع الأخيرة، بالتزامن مع بدء الاختراق الإسرائيلي لرفح، فمنذ اجتماع فصائل "محور الممانعة" في بيروت منتصف آذار (مارس) الماضي جرى الاتفاق على استراتيجية تصعيد متدرّج لتخفيف الخطر على فصائل غزّة. وإذا كانت مساندة غزّة قد اقتصرت في الشهور الأولى على "مشاغلة العدو" فإنها في المرحلة الراهنة قد تخطو إلى أبعد من ذلك. وقد تعمّد "حزب إيران" أخيراً إظهار أسلحة جديدة لكن مصادره تؤكّد أنه لم يكشف سوى نسبة ضئيلة من قدراته، خصوصاً في الدفاع الجوي.
وعلى رغم توصية أمنية في إسرائيل بإنهاء حرب غزّة للتركيز على جبهة لبنان، إلا أن واشنطن واصلت إصرارها على تجنّب الحرب مع "حزب إيران/ حزب الله" لأنها تفاقم الأزمة في المنطقة "من دون استراتيجية واضحة". ثمة تقديرات أميركية بأن إيران قد تدفع إلى لبنان بمجموعات مسلحة من سوريا والعراق واليمن، بل إنها تستدرج إسرائيل إلى حرب لن تستطيع تحقيق أهدافها فيها، لكنها خطّطت لجرّ أميركا إلى "عمق الصراع". وبعد إطلاق "الحزب" أكثر من مئتي صاروخ على إسرائيل، ردّاً على اغتيال أحد أبرز قادته العسكريين، حمّل الناطق الحكومي الإسرائيلي لبنان و"حزب الله" وإيران "مسؤولية تدهور الوضع الأمني في الشمال". لكن وزير الدفاع الأميركي أبلغ نظيره الإسرائيلي، في اتصال هاتفي، أن الولايات المتحدة "لا تريد صراعاً إقليمياً أوسع نطاقاً، بل تريد خفض تصعيد التوتّر في المنطقة"...