تكررت الحوادث التاريخية الكبيرة والمؤثرة نفسها بشكل أو بآخر، رغم اختلاف الظروف والمعطيات. إذ تأتي العبرة من مبالغة الجهة الفاعلة بقدراتها وعدم تحسبها أو توقعها للتداعيات الكارثية والارتدادات العكسية الناجمة عن حركة غير محسوبة لها.
مثال ذلك على الصعيد الدولي، هجوم الجيش الياباني المفاجئ على "بيرل هاربر" (1941/هاواي)، وتدميره الأسطول البحري الأميركي في الميناء، لكن ذلك الانتصار الساحق، تحول إلى كارثة على شعب اليابان، إذ غيّر مسار الحرب العالمية الثانية، بانخراط الولايات المتحدة فيها، واستخدام قنبلتها الذرية لحسمها لصالح الحلفاء، وفرض الاستسلام على اليابان.
أيضا، في 11 سبتمبر/أيلول (2001) استطاع أشخاص من تنظيم "القاعدة"، اختطاف طائرات وتدمير مبنيي التجارة العالمي في نيويورك، ما أثار مشاعر كثر في العالم، سيما في العالم العربي ممن رأوا في العملية ثأرا من الإمبريالية الأميركية، وسياساتها الظالمة. بيد أن الولايات المتحدة نقلت الزلزال الذي ضربها فزلزلت العالم بأسره، وشمل ذلك احتلال أفغانستان ثم العراق، ناهيك عن تغيير وجه العالم من ناحية أمنية، مع ترسيخ النزعة العسكرية الأميركية.
وعلى الصعيد العربي، مثلا، شهدنا صعود الحركة الوطنية الفلسطينية في الأردن بعد حرب يونيو/حزيران 1967، سيما بعد معركة الكرامة (1968)، إلى درجة أن الفصائل الفلسطينية باتت تعتبر نفسها سلطة، حتى إن ثمة فصائل رفعت شعار "لا سلطة إلا سلطة المقاومة" ما أدى إلى اندلاع أحداث سبتمبر 1970 التي نجم عنها إخراج الحركة الوطنية الفلسطينية من ذلك البلد، وحرمانها من العمل في أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين.
المشكلة أن الأمر ذاته تكرر في لبنان (منذ أواسط السبعينات)، إذ تزايد نفوذ الحركة الوطنية الفلسطينية، إلى درجة أنها باتت دولة داخل الدولة، بحيث أدى ذلك (بين أسباب أخرى) إلى نشوب الحرب الأهلية اللبنانية، ومن ثم تبرير وتسهيل دخول الجيش السوري إلى لبنان ووضعه تحت هيمنة النظام السوري، الأمر الذي تواصل فيما بعد بوضع لبنان تحت هيمنة النظام الإيراني، عبر "حزب الله" مع كل الآثار الكارثية الباقية حتى الآن.
هكذا، ففي الحالتين اللبنانية والأردنية تضرر الشعب الفلسطيني، في الأردن ولبنان، إلى جانب حركته الوطنية، بدخولها مواجهات خارج سياقها، واستنزافها قواها في غير محلها.
في الإطار ذاته سارع كثر لاحتساب واقعة احتلال نظام صدام للكويت (1990) كــ"انتصار" للجيش العراقي وللقومية العربية. بيد أن تلك المشاعر السطحية المتسرعة، تمخضت عن كارثة مهولة للعراق، سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، لم يتعاف منها حتى الآن. إضافة إلى انعكاساتها السلبية على الكويت وعلى العلاقات العربية- العربية.
في 2006 قام "حزب الله" بأسر جنديين إسرائيليين، فردت إسرائيل بحرب دمرت الضاحية الجنوبية وقرى في جنوب لبنان، مع مصرع 1200 من اللبنانيين، إلى درجة أن الأمين العام لـ"الحزب" حسن نصر الله أكد أنه لو كان يعلم بردة الفعل تلك لما قام "حزبه" بتلك العملية، لكن "الحزب" استثمر تلك العملية بالهيمنة على لبنان، واستخدام بندقيته ضد السوريين عندما نشبت الثورة السورية.
ولعل التجربة السورية كانت أقسى وأخطر وأقرب، إذ ظنت المعارضة، سيما الفصائل المسلحة، أنها سيطرت على نصف سوريا وأوشكت على هزيمة النظام وبقي فقط تحديد ساعة الصفر، إلا أن ذلك بيّن عن تسرع وسذاجة سياسية، وانفصام عن الواقع وعن المعطيات العربية والدولية. إذ بقي النظام وتشرد نصف السوريين.
وعلى صعيد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ثمة سوابق عديدة، ففي عام 1981 شهدت جبهة الحدود اللبنانية- الإسرائيلية حرب صواريخ متبادلة بين "فتح" وإسرائيل، ما نجم عنها تفريغ المستوطنات الإسرائيلية من سكانها. وفي حينه اعتبرت قيادات المقاومة ذلك انتصارا، حتى إن الرئيس الفلسطيني (حاليا) محمود عباس، وكان عضوا في اللجنة المركزية لحركة "فتح"، في حينها، سجل ذلك في كتاب خاص عنوانه: "استثمار الفوز"، نوه فيه بالمكاسب التي تم تحقيقها في حرب الصواريخ تلك. في المحصلة فإن إسرائيل وبعد عدة أشهر قامت بغزو لبنان (1982) وإنهاء وجود "منظمة التحرير"، بقواتها ومؤسساتها، من لبنان.
في زمن الانتفاضة الثانية المسلحة، التي أتت بنمط العمليات التفجيرية ـ الاستشهادية (2000- 2004)، بخلاف الانتفاضة الشعبية الأولى (1987- 1993)، تعرضت إسرائيل لأقسى وأكبر خسائر بشرية في تاريخها (1060 إسرائيليا)، منها مصرع 130 إسرائيليا في شهر واحد فقط (مارس/آذار 2002)، عدا عن الخسائر المعنوية والاقتصادية، التي تكبدتها، وضمنها حصانتها الأمنية ورؤيتها لذاتها كدولة قوية رادعة. بيد أن إسرائيل هضمت كل ذلك، بشنّها حربين ("السور الواقي"، و"الطريق الحازم")، قوّضت فيهما البنى التحتية للمقاومة وقطّعت أوصال الضفة، ثم قامت ببناء الجدار الفاصل والجسور والأنفاق العازلة، مع تعزيز الاستيطان، ثم انسحبت أحاديا من قطاع غزة مع فرض الحصار عليه، لتكريس الفصل بين الضفة وغزة، وتحويل ذلك الواقع إلى مشكلة للفلسطينيين. وبقية القصة معروفة.
أيضا، بعد فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية في يناير/كانون الثاني 2006، قامت بعملية أسر للجندي جلعاد شاليط من موقع عسكري (أفرج عنه في 2011 في عملية تبادل)، قرب معبر كرم أبو سالم، على حدود غزة (يونيو/حزيران 2006)، وكانت تلك عملية ناجحة، بيد أن إسرائيل قامت بعدها بشن هجمات انتقامية ضد الفلسطينيين في غزة، أودت بحياة أكثر من 400 منهم، إضافة إلى تشديد الحصار على القطاع، منذ ذلك الوقت.
الآن في عملية "طوفان الأقصى"، نجح مقاتلو "القسام"، بتوجيه ضربة لإسرائيل، قوضت أسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، مع خسائر كبيرة في الأرواح، والأسرى، في عملية استمرت لساعات، لكن إسرائيل وجدت في ذلك فرصة سانحة لها لشن حرب إبادة ضد الفلسطينيين، وهي مستمرة منذ قرابة تسعة أشهر، دمرت فيها 70 في المئة من بيوت غزة، وبناها التحتية، وشردت سكانها، مع أكثر من مئتي ألف منهم بين قتيل وجريح وأسير ومفقود، وإبقاء الفلسطينيين فيها في حال من الرعب والبؤس مع قطع الماء والكهرباء والغذاء والوقود والدواء. الآن مطلوب وقف العدوان، وانسحاب الجيش الإسرائيلي، وإعادة الإعمار، وعودة الشعب إلى بيوته، وهو ما كان قبل الحرب، لكن أين صارت غزة؟ أو ما الذي بقي منها؟ طبعا لم تتأثر "حماس" ربما إلا بنسبة 30 في المئة، لكن فلسطينيي غزة تأثروا بمقدار 1000 في المئة.
هذه تجارب لاستنباط العبر، مع تأكيد شرعية المقاومة بكل أشكالها، على أن لا تتأسس على التمنيات والروح القدرية، وإسناد الملائكة، ولا على الحرب كجيش لجيش، وإنما ككفاح مسؤول، يراعي المعطيات الخارجية، وموازين القوى الفعلية، ويكسب بالنقاط وبالتدريج، ويتوخى استنزاف العدو لا تركه يستنزف الشعب، الذي هو أساس المقاومة، وليس هذا الفصيل أو ذاك، علما أن المقاومة تستوجب التضحيات، لكن ليس ترك الشعب للإبادة أو التهجير، وهو هدف إسرائيل الحقيقي.
الآن، صمدت "حماس"، بيد أن فلسطينيي غزة سُحقوا. وسابقا كان "انتصار" الأنظمة يحسب ببقائها، ويخشى أن ذلك بات يشمل الفصائل أيضا، لذا فمع هكذا "انتصارات"، ينجم عنها محو غزة، وتحويل شعبها إلى بائسين ويائسين، ما هي الهزيمة إذن؟