على الأقل بات واضحاً أن أمامنا شهراً لن تستعر فيه الحرب بين إسرائيل وحزب الله، فزيارتا يوآف غالانت اليوم للولايات المتحدة وزيارة نتنياهو في الرابع والعشرين من تموز لإلقاء خطابه في الكونغرس تفرضان الحفاظ على الوضع الحالي «حافة الهاوية» ليس فقط لأن الحرب تفرض وجود رئيس الوزراء بل إذا ما فكر بشن هذه الحرب يكون قد أمّن لها ما يكفي من الدعم خلال زيارته.
الولايات المتحدة لا تريد حرباً مع حزب الله، لأنها لن تكون ككل الحروب، وهي تدرك ممكنات الطرف الآخر في الشمال والذي تمكن العام 2006 من الصمود وشل قدرة الجيش الإسرائيلي على الدخول لعشرات الأمتار فكيف سيكون الحال بعد عقدين من التدريب الجدي والتسليح المتطور الذي أرسلته إيران بعد ثقتها بقدرته على المواجهة وبعد مشاركته القوات الخاصة الروسية في سورية في غرف عمليات مشتركة، مع اعتبار روسيا التي لها مصلحة في الحرب لضرب اتفاق الغاز لذا من الممكن أن تكون زودت الحزب بما جعل لديه فائض الثقة التي جاءت في الخطاب الأخير للأمين العام لدرجة تهديد قبرص.
الولايات المتحدة على أبواب الانتخابات، والحرب إن اتسعت وهي مرشحة إذا ما اندلعت ستمس مركز عصب الاقتصاد العالمي والأميركي لذا كان المبعوث عاموس هوكشتاين ضيفاً دائماً على لبنان يحاول إطفاء النيران فيما تُركت إسرائيل تبيد غزة ببساطة، لأن غزة لا تؤثر على مصالح أميركا ولا تتسبب بهجمات تعيد إسرائيل للعصر الحجري. فالحرب تدور في غزة وليس على تل أبيب والخضيرة وأسدود ومحطات الطاقة ومصانع السلاح والقواعد، وضحاياها هم الغزيون لكن هناك ستكون أكثر شراسة وستضرب مطارات وبنى تحتية إسرائيلية ومواطنين إسرائيليين.
نتنياهو كاذب وهو معروف بذلك لدى جميع من عملوا معه، لكن الفيديو الذي نشره حول تأخير السلاح الذي أغضب واشنطن ربما فيه شيء من الحقيقة لأنها تحاول منع الحرب بأي وسيلة، وربما استخدمت تأخير السلاح الذي يشجع إسرائيل على اتخاذ قرار الحرب للتعبير العملي عن معارضتها وإلا لما تحدث بهذه الفجاجة رغم غطرسته المعروفة لكن يبدو أنه يشكو من شيء من ذلك، خاصة أنه تم فعلياً إرسال إشارة تأخير القنابل التي تزيد على 900 كيلو وتلك ربما مخصصة للبنان فغزة لا تحتاج هذا النوع من القنابل، بل تحتاجها إسرائيل لجبال لبنان والأنفاق المحفورة بداخلها.
منذ بداية الحرب وإسرائيل تتلقى ضربات وتُهدد، صحيح أنها كانت أعلى صوتاً في بداية الحرب بإعادة لبنان للعصر الحجري وتحذيره والإيهام بأن الطيارين في قمرات القيادة بانتظار الأوامر، لكن هذا التهديد مع العمل المتقن الذي قام به حزب الله تحول إلى مأزق وضع إسرائيل أمام خيارات أحلاها مر، وأمام تهديدات تكتيكية واستراتيجية تواجهها لأول مرة منذ إقامتها.
فهي لم تعد قادرة على تحمل الضربات والإذلال اليومي الذي يمارسه الحزب لأن ثمن نزيف الردع أكبر من أن تتحمله ولا هي قادرة على اتخاذ قرار الحرب في ظل الإمكانيات الكبيرة التي يملكها الحزب هذا على الصعيد التكتيكي.
أما على الصعيد الإستراتيجي فالمعركة مع الحزب تلقي بسؤال أكثر خطورة على مستقبل إسرائيل وهو، ماذا لو انتهت الحرب عند هذا الحد وتوقف حزب الله عن المس بإسرائيل؟ هذا يعني أنه برز يوماً تهديد وجودي لم تستطع إسرائيل التعامل معه وبقي كامناً قد يتحقق في أي لحظة وتلك أخطر من الحرب نفسها لأنها تشكل تقويضاً لفكرة الاستقرار الآمن والوطن الآمن لليهود، ومع تهديد أمين عام حزب الله ببقاء خيار اجتياح الجليل قائماً هذا يعني أن ما قامت به حماس الصغيرة في السابع من أكتوبر بوسائلها المحلية مجرد عينة محدودة أمام ما سيفعله الحزب. وأمام هذا الواقع كيف يمكن إقناع الإسرائيلي بالبقاء ؟ هنا مساس بفكرة المشروع الصهيوني وهذا أخطر من الحرب نفسها.
هنا مأزق إسرائيل الحاد الذي اكتشفته وهي تقف أمام خيارات صعبة آنية ومؤجلة أينما أشاحت بوجهها لن نجد سوى تجليات أزمة. فليس هناك من هو مستعد لاتخاذ قرار مغامرة الحرب ولا أحد مستعد لهذا الضرب اليومي من هنا ستبدو الحرب على غزة ثانوية أمام أزمة استراتيجية ففي يومها الأول شكلت غزة تهديداّ وجودياً لكنها عادت بعد الحرب كتهديد أمني لكن لبنان أصبح التهديد الوجودي الرئيس، ومن هنا الحديث عن إعلان هزيمة حماس واقتراب انتهاء عملياتها برفح ينسجم مع الأزمة الأكثر استعصاء في الشمال فقد باتت قادرة على التعامل مع غزة ولم يعد يلزم هذا الجيش الكبير فما تحتاجه هو القوات في ممري نتساريم وفيلادلفيا لتنتقل للمرحلة الثالثة بعمليات تسميها جراحية موضعية لا تحتاج حشوداً كبيرة.
بالنسبة لإسرائيل لم يعد وقف الحرب في الجنوب يقدم لها جواباً حول تهديد الشمال، هنا بات المأزق الإسرائيلي هو ماذا لو توقفت الحرب، بالعادة توقف إسرائيل حروبها حين تضمن إزالة التهديد لكن هذه المرة ظهرت جبهة أخرى أكثر شراسة تركت تهديداً أكبر فكيف ستتعايش معه إسرائيل ؟ هنا خلاف أميركي إسرئيلي آخر، من المشكوك أن يغامر بايدن، ومن مصلحة نتنياهو انتظار ترامب.
"إسرائيل"، وليس نتنياهو فقط، من مأزق الى مأزق
28 أكتوبر 2024