بقلم: أودي ديكِل وعومر عيناف*
كما في كل عام، عُــرض في المؤتمر السنوي لمعهد دراسات الأمن القومي الذي عُقــد فـي 17 - 19 كانون الثاني 2016، عدة مسائل استراتيجية – داخلية، وإقليمية وعالمية - موجودة في صلب اهتمامات صنّاع القرار في البلاد وفي العالم.
وتخلّل المؤتمر نقاشات لمواضيع متنوعة، ومداخلات لمشاركين لديهم تصورات تتحدى بعضها بعضاً، وقدموا تفسيراتٍ متباينة بشأن الواقع.
والقاسم المشترك لكل المواضيع المطروحة، هو ارتباطها المباشر بدولة إسرائيل وبأمنها القومي.
والغرض من هذه المقالة هو توحيد الرؤى التي طُرِحت في المؤتمر في صورة متكاملة، ورسِم خطوط سياسة عامة على أساس منها، تساعد حكومة إسرائيل في مواجهة أفضل للتحديات التي تم التركيز عليها، ونوقشت خلال المؤتمر.
ارتباك استراتيجي
عكست مداخلات الخبراء والشخصيات العامة، الذين شاركوا في المؤتمر، تصورات متباينة جوهرياً حيال تحديد ماهية المشكلة الاستراتيجية الرئيسة الماثلة أمام إسرائيل.
وفي الحقيقة توقّع كل الخبراء الذين أشركوا الجمهور وسائر المتحدثين في صورة الوضع، استمرار عملية تفكك المنظومة الدولية القديمة في منطقة الشرق الأوسط، دون وجهة تطور واضح ويمكن إدارته.
كما جرى التشديد على أن إسرائيل لا تمتلك رافعات تأثير تستطيع بوساطتها تشكيل منظومة جديدة تتيح تحقيق مزيد من الاستقرار، وتقليص تأثير العناصر الراديكالية، وتمنح اللاعبين المسؤولين مزيداً من القوة وتأثيراً أكبر في المنطقة. وعلاوة على ذلك أعرب الجميع عن تقديرهم بأن هذا المسار سيستمر لفترة طويلة، وأن المطلوب تبعاً لذلك هو الصبر، فضلاً عن المرونة وقدرة التكيف السريعة وفق الأوضاع الجديدة.
ولكن، أشار خبراء من داخل إسرائيل وخارجها إلى تنظيم الدولة الإسلامية («داعش») على أنه المشكلة الاستراتيجية الرئيسة الماثلة أمام العالم بصورة عامة، ومنطقة الشرق الأوسط بصورةٍ خاصة، وكذلك أمام إسرائيل، وذلك من منظور موسع يلاحظ أن الحركات السلفية الجهادية تعتبر العالم كله ميداناً صالحاً للنفوذ السياسي، ويعتبر سعيها بمثابة «حرب عالمية ثالثة».
لقد اعتبر رئيس الدولة، رؤوفين ريفلين، أن تنظيم الدولة الإسلامية («داعش») هو التحدي الرئيس، مؤكداً أن التنظيم، فضلاً عن وجوده على حدود إسرائيل، له وجود في الداخل - من خلال تأثيره واستلهام مبادئه من قبل هامش المجتمع العربي في إسرائيل.
وتبعاً لذلك، بحسب رؤية الرئيس، فإن المهمة الرئيسة الواقعة على عاتق دولة إسرائيل تتمثل في استثمار موارد وجهود في جمهور العرب في إسرائيل، من أجل الحؤول دون تبني هامش المجتمع الآخذ بالتوسع، أفكار «داعش» الهدامة والجذابة.
كما أكد مسؤولية دولة إسرائيل عن منع اتساع الظاهرة، وضرورة عدم توجيه إصبع الاتهام إلى آخرين.
في مقابل ذلك، أكد وزير الدفاع، موشيه يعلون، أن إيران تمثّل التحدي الرئيس لإسرائيل، بل أوضح أنه يفضل وجود «داعش» في مرتفعات الجولان على إيران ووكلائها - نظام الأسد، «حزب الله» وفيلق القدس (الحرس الثوري) الإيراني. وفي السياق ذاته، تجدر الإشارة إلى أن الخبراء الذين شاركوا في المؤتمر، اعتبروا، في أغلبيتهم، أن الاتفاق النووي المبرم بين إيران والقوى الكبرى لا يكبح دعم إيران عناصر الإرهاب، ونشاطها التخريبي في منطقة الشرق الأوسط وسعيها للهيمنة الإقليمية، بل أكثر من ذلك، شدّد يعلون على أن الاتفاق النووي يمنح إيران نظرياً وعملياً، شرعية للتدخل في نزاعات إقليمية ويزودها بموارد تمكّنها من دعم عناصر مارقة.
من جهته، عرّف رئيس هيئة الأركان العامة، غادي آيزنكوت، «حزب الله» بأنه التحدي العسكري الرئيس الماثل أمام إسرائيل، في الوقت الحاضر، بعد أن تعاظمت قوته (ترسانته)، في السنوات الأخيرة بعشرات آلاف الصواريخ والقذائف الصاروخية والطائرات بلا طيار، التي تهدد الجبهة الداخلية للدولة.
كما قال رئيس الأركان إن «حزب الله» يُراكِم في هذه الأيام خبرة عملانية واسعة، جراء قتاله في سورية إلى جانب قوات النظام.
وفي الوقت نفسه اعتبر بعض المشاركين أن الموضوع الفلسطيني هو التحدي الاستراتيجي الرئيس الماثل أمام إسرائيل.
ويشاطر هذا الرأي كثيرون في الجمهور الإسرائيلي، كما يبيّن استطلاع للرأي أجراه المعهد مؤخراً.
وبحسب هذه الرؤية فإن الحفاظ على الوضع القائم، الخيار المفضل لدى حكومة إسرائيل، ليس قائماً فعلياً - ما يتجلى في اندلاع إرهاب الأفراد (من الصعب الحصول على إنذار مبكر بشأنه، وتالياً إحباطه)، الذي يتغذى من تنامي التطرف في المجتمع الفلسطيني، ومن زيادة نِسَب التأييد لتنظيم الدولة الإسلامية، ولذلك انعكاسات سلبية أيضاً على المجتمع الإسرائيلي، من خلال المساس بشعور الأمن الشخصي، وزيادة نسبة التطرف والاستقطاب.
وفي هذا الإطار قرع الأديب دافيد غروسمان جرس الإنذار محذراً من انهيار البيت (إسرائيل) جراء أفعال دولة إسرائيل، أو بشكل أصح جراء عجزها.
يمكن وصف غياب تعريفٍ متفقٍ عليه للمشكلة الاستراتيجية الماثلة أمام إسرائيل، علاوة على تحديدات مختلفة لأولويات التهديدات وغياب الإشارة إلى وجود فرص، بأنه «ارتباك استراتيجي».
وبتعبير أكثر حدة: الفوضى في المحيط الاستراتيجي لدولة إسرائيل تسببت بفوضى فكرية، والنظر إلى الوضع القائم باعتباره الخيار الأفضل.
إن خيارات بديلة تتطلب مبادرة وخطوات نشطة ترمي إلى خلق واقعٍ مختلف - وإن كانت تنطوي على مستوى عالٍ من عدم اليقين.
وعلى ما يبدو فإن صناع السياسة في إسرائيل في الوقت الحاضر، في تقويمهم للوضع، يرون أن المخاطر المتصلة بخيارات أُخرى، ما عدا الحفاظ على الوضع القائم، هي أقوى من الاحتمالات والفرص الكامنة في هذه الخيارات.
اتجاهات بارزة
جرى التشديد خلال نقاشات المؤتمر على ثلاثة اتجاهات رئيسة، تتشابك خيوطها مع خيوط معظم الأحداث الدائرة في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الحاضر.
انتقال من هيكلية دولتية واضحة إلى نشوء عناصر غير دولتية: لقد أوجد ضعف دول في المنطقة فراغاً في الحكم ملأه لاعبون آخرون، في موازاة تعاظم المكونات الإثنية والدينية والثقافية والأهلية، على حساب الهوية الدولتية الوطنية الجامعة.
وهذه ظاهرة بارزة على نحو خاص في دولٍ تشهد صراعاً دموياً - سورية، والعراق، وليبيا، واليمن - وهي ملحوظة أيضاً بقوة أقل في المملكة العربية السعودية، والأردن ولبنان، وفي كيانات غير دولتية، بما في ذلك السلطة الفلسطينية وسلطة «حماس» في قطاع غزة.
ولقد جرى الحفاظ على الهوية الدولتية بشكلها الأقوى في دول لها جذور تاريخية وتقاليد ترجع عدة قرون إلى الوراء إن لم يكن أكثر: إيران، وتركيا، ومصر.
وعلى الرغم من محاولات الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إعادة فرض النظام القديم على الدول الفاشلة في المنطقة، فإن العودة إلى الوراء تبدو غير ممكنة، ويجب الاستعداد لنشوء نظام وهيكليات جديدة في المنطقة.
بنية تحتية متقلقلة غير صالحة لالتزامات، أو أحلاف، أو مشاريع تعاون بعيدة المدى: نتيجة الفوضى الإقليمية تضطر جميع الأطراف إلى الاعتماد على مصالح متداخلة قصيرة الأجل، يمكن أن تتغير بلمح البصر.
وهكذا، على سبيل المثال، في سورية، حيث كثيراً ما يغيّر اللاعبون المحليون ولاءاتهم، بحسب التطورات على الأرض والدعم من الخارج.
وهذه الديناميكية قائمة أيضاً على المستوى البيني (بين الدول)، ويصعب اليوم تخيّل توقيع اتفاق ينهي الحرب في سورية أو العراق، بحكم صعوبة خلق التزام طويل الأجل. وحتى على المستوى الدولي، الاتفاق النووي المبرم بين إيران والقوى الكبرى محدد بفترة 15 عاماً فقط، وعليه، يجب البدء بالاستعداد ذهنياً لأنشطة محددة لفترات قصيرة الأجل، وليس لأجل بعيد.
الوعي كوسيلة لتحقيق أهداف استراتيجية في المنطقة وخارجها: بعد أن سُجِّل في العقود الأخيرة في ميدان القتال انتقال من حرب بين جيوش نظامية، إلى حرب غير متناظرة في مواجهة أعداء من أنواع هجينة (hybrids) وصعود مكوّن الإرهاب، تتميز الفترة الحالية ببروز مكونات الصورة المدركة.
وحتى دولة إسرائيل انجذبت إلى نوع من القتال الرامي إلى تحقيق صورة انتصار، على حساب نتائج واضحة في ميدان المعركة من شأنها تشكيل واقع أفضل.
والنموذج الأبرز للقتال المشهدي هو تنظيم الدولة الإسلامية، واستخدامه الماهر لوسائل التواصل الاجتماعي، كي يشيع الخوف وينشر أفكاره حول العالم.
وحتى السلطة الفلسطينية تدير حملة توعية ضد إسرائيل في الساحة الدولية، مبنية على صوَر، وتستهدف المساس بشرعية دولة إسرائيل كجزء من أسرة الأمم.
دوائر استراتيجية
هذه الاتجاهات الثلاثة راسخة في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل ومندمجة في أربع دوائر، بينها ارتباطات متبادلة:
دائرة القوى العظمى: وجوهرها التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا على الهيمنة في المنطقة، وعلى التأثير في اللاعبين البارزين فيها.
ومن بين سائر القضايا الخلافية بين القوى العظمى، ينبغي لإسرائيل أن تضع نصب عينيها مسألتين رئيستين: الأولى، مدى انخراط هاتين القوتين في حل أزمات الشرق الأوسط، وبنوع خاص في سورية، كبارومتر لقياس نواياهما وعمق التزامهما تجاه حلفائهما في المنطقة؛ الثانية، مسألة الولايات المتحدة كقوة عظمى داعمة لإسرائيل، وصلاحية هذا التحالف على خلفية عثرات كثيرة في مسيرته، وإلى جانب ذلك تحسّن العلاقات الثنائية بين إسرائيل وروسيا، وبنوع خاص في ضوء التنسيق والتفاهم المتبادل بينهما بالنسبة إلى الحرب في سورية.
الدائرة الإقليمية: وهي تتأثر باشتداد حدة الخصومات بين المعسكرات في منطقة الشرق الأوسط.
فقد عادت الخصومة الدينية السنية - الشيعية كعامل رئيس موجّه في الصراع من أجل الهيمنة الإقليمية، وبينما تقف إيران على رأس المعسكر الشيعي تقود العربية السعودية المعسكر العربي - السني، والطرفان يتصارعان سعياً لتحقيق هيمنة إقليمية.
ويلعب الصراع بينهما دوراً رئيساً في تشكيل الساحة، حيث ينشط لاعبون منخرطون فيه. وساحات الصراع متنوعة وتتميز بدرجات متباينة من الحدة - من سورية، مروراً بلبنان ووصولاً إلى اليمن.
وموقف إسرائيل السياسي - الأمني في هذا السياق واضح: إيران تشكل تهديداً رئيساً للمصالح الإسرائيلية، بناء على تصريحاتها وأفعالها، في حين أن السعودية وشركاءها يشاطرون إسرائيل مصالح مشتركة، من ضمنها محاربة تنظيميْ الدولة الإسلامية والقاعدة.
الصراع داخل المعسكر السني: يقود تنظيما الدولة الإسلامية والقاعدة الفكر السلفي الجهادي، ويشمل المعسكر السني الإسلام السياسي، الذي تمثله تركيا وقطر، والذي تراجع إلى حد كبير منذ سنة 2013.
والمعسكر السلفي - الجهادي هو النواة الصلبة لهذه الدائرة، ويجسّد ظاهرة فريدة لها انعكاسات إقليمية وعالمية في صلب الخطاب الدولي.
فبعد عقود من التكوّن والتطور، نضج هذا المعسكر في العقد الحالي وأصبح يهدد فعلياً مرتكزات الشرق الأوسط، في الأساس نتيجة لظاهرة الدولة الإسلامية.
إن النهج الهدام والجذري لهذا الكيان أدى عملياً إلى محو الحدود بين العراق وسورية، وإلى كسر المنظومة الدولتية التي استُبْدِلت بدولة الخلافة.
ومن وجهة نظر إسرائيل، التهديد محدق من ناحيتين: الأولى نشاط «الدولة الإسلامية» بمحاذاة حدود إسرائيل، وفي الحرب الدائرة في سورية، ومحاولاتها إحراز تأثير في لبنان، وتحالفها مع الإرهاب السلفي الجهادي في شبه جزيرة سيناء، ومحاولة التغلغل إلى الأردن؛ والثانية، محاولات حشد تأييد وسط السكان الفلسطينيين في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، وأيضاً وسط المواطنين العرب في إسرائيل.
الدائرة الفلسطينية: خلافاً للدوائر الثلاث الأُخرى، التي يوجد بينها تأثير متبادل مباشر وجلي، فإن النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني منعزل نسبياً.
إن تراجع الهوية القومية في أجزاء واسعة من الشرق الأوسط همّش المسألة الفلسطينية التي كانت طوال سنوات كثيرة محط إجماعٍ مركزي موحِّد في الساحة العربية - الإسلامية.
وفي الواقع، يتأثر السكان الفلسطينيون بالاتجاهات الإقليمية، بصفتهم جزءاً لا يتجزأ من محيطهم (موجة «الإرهاب» الأخيرة في إسرائيل اندلعت أيضاً بتأثير من «الدولة الإسلامية»)، لكنهم بقوا خارج لعبة تتشكل قوانينها في حقول القتل في سورية، والعراق، وليبيا واليمن.
وتسلط الدائرة الفلسطينية الضوء على الفجوات في المجتمع الإسرائيلي لجهة صورة الدولة - ديمقراطية، ويهودية وآمنة - وعلى انعكاسات غياب حل سياسي على مكانة إسرائيل في العالم.
إن الاهتمام بشؤون الفلسطينيين ليس على رأس أولويات اللاعبين الرئيسيين في المنطقة، ولكن من قبيل المفارقة لا تزال هذه القضية تنطوي على إمكانات هائلة لتغيير مكانة إسرائيل الإقليمية وموازين القوى في المنطقة، وأي تطور إيجابي يتوقف بدرجة كبيرة على الخطوات التي تقدم عليها إسرائيل.
عتبات قفز استراتيجية
التحدي الكبير بالنسبة إلى إسرائيل يكمن في تحديد نقاط تُكسبها أفضلية استراتيجية مثلى، من خلال بلورة خيارات سياسية - أمنية جديدة.
وتشير دراسة متأنية للمكونات ذات الصلة - الاتجاهات الإقليمية والدوائر الاستراتيجية - إلى أنه يوجد لإسرائيل عملياً عدد من عتبات قفز تشكل أرضية لمبادرات متنوعة، تستطيع بوساطتها تحسين مكانتها واعتماد أجندة تخدم مصالحها، في مواجهة أصدقائها وأعدائها على السواء.
عتبة قفز أولى - الساحة الداخلية في إسرائيل: يجب في هذا السياق إعطاء الأولوية لتقليص الفجوات بين السكان العرب والسكان اليهود. إن إيجاد شراكة عميقة وراسخة، غير مبنية على مصالح ضيقة، من شأنه تعزيز المناعة الوطنية للمجتمع، وتخفيف الاستقطاب المتزايد بين أجزائه المختلفة.
فالوضع الحالي للمجتمع العربي في إسرائيل يستدعي تأثيرات سلبية، مثل تلك التي تحدثها الدولة الإسلامية.
وحدها الشراكة الحقيقية، التي تتجلى بتكافؤ الفرص الاقتصادية والاجتماعية، تمكّن إسرائيل من مواجهة تحديات الوقت الحاضر في الداخل.
عتبة قفز ثانية - المسألة الفلسطينية: من المرجح جداً أن يكون تغيير الوضع في ساحة النزاع «مغيّراً لقواعد اللعبة» (game changer) بالنسبة لإسرائيل.
إن موجة العنف الفلسطيني التي اندلعت في خريف سنة 2015 تبيّن مجدداً مدى ضرورة وضع خطة لتغيير الواقع، لكن يبدو أنه باستثناء اقتراحات لتحسين وضع الفلسطينيين الاقتصادي ونسيج حياتهم، ليس في جعبة إسرائيل رؤية استشرافية وأهداف بعيدة المدى.
بيد أنه بالذات في ضوء الجمود المستمر، من شأن خطة سياسية متعددة المسارات في الساحة الفلسطينية أن تشكل أساساً لتحسين وضع إسرائيل من عدة وجوه.
وينبغي لهذه الخطة أن ترتكز على عملية تشمل خطوات متوافق عليها: تهيئة الظروف الميدانية الملائمة لتسوية سياسية، يواكبها تسريع تطوير البنى التحتية للدولة الفلسطينية المستقبلية (ومن ضمنها في قطاع غزة).
ومن شأن عملية حوار إيجابي بين إسرائيل والفلسطينيين أن تحصن العلاقات الاستراتيجية مع الدولتين اللتين وقّعت إسرائيل معاهدات سلام معهما (مصر والأردن)، وأن تشكل عتبة قفز ضرورية، هي بمثابة تذكرة دخول إلى العتبة الثالثة.
عتبة قفز ثالثة - تعزيز التعاون بين إسرائيل ودول عربية: في ضوء المصالح التي تشترك فيها إسرائيل مع الدول العربية السنية – إضعاف إيران، ومحاربة المعسكر السلفي الجهادي، ودعم لاعبين مسؤولين في سورية - تستطيع إسرائيل المساعدة في النهوض بمشاريع مدنية - اقتصادية، على سبيل المثال في مجالات التكنولوجيا، والمياه، والزراعة والطاقة.
هذه الدول، من جانبها، يسعها المساعدة في تطوير بنية تحتية لدولة فلسطينية، إلى جانب تعزيز المصالح المتطابقة - المشتركة في المنطقة.
وفي مرحلة لاحقة، في ما يمكن أن يشكل «نصف عتبة قفز» إضافية، تستطيع إسرائيل درس إمكان تحديد شركاء (ولو مؤقتين) على المستوى المحلي، ووسط لاعبين آخرين غير دولتيين بالقرب من حدودها، وأيضاً في عمق العالم العربي، وتحديداً أولئك الذين يمكن أن يتحولوا إلى عناصر مهمة في لعبة موازين القوى في المنطقة، والذين من شأن العلاقة معهم تقليص عدم اليقين مستقبلاً.
عتبة قفز رابعة - مستوى القوى الكبرى: الهدف الأول الفوري والحيوي أكثر من أي هدف آخر هو إعادة العلاقات الخاصة لإسرائيل مع الولايات المتحدة إلى سابق عهدها. فباستثناء العلاقات الأمنية الوثيقة، أضرت الخلافات السياسية بشكل خطر بالأفق الحالي لإسرائيل في المنطقة، ومن هنا، ينبغي لإسرائيل أن تحرص على استعادة الثقة المتبادلة، وأن تخطو في اتجاه تعاون كامل بين الدولتين.
وعلاوة على ذلك، شكّل دخول روسيا إلى المعادلة الإقليمية من خلال تدخلها في سورية وضعاً جديداً بالنسبة إلى إسرائيل.
والحفاظ على علاقات جيدة وتنسيق مع روسيا يمنح إسرائيل أفضلية فريدة، نظراً إلى ارتباطها بعلاقات جيدة بالقوتين العظميين في الوقت نفسه، وهذا ما يتيح لها المبادرة إلى اتخاذ خطوات تحظى بموافقة القوتين.
وفي غضون ذلك، يجب عدم تجاهل النشاط الصيني المتزايد في المنطقة، وأساساً على الصعيد الاقتصادي، والذي يسع إسرائيل الاستعانة به للدفع قدماً بمشاريع اقتصاد وبنى تحتية في مناطق السلطة الفلسطينية.
وينطوي الحفاظ على توازن في العلاقات بينها وبين القوى العظمى، مع أفضليةٍ واضحة للولايات المتحدة، على مزايا استراتيجية قيّمة بالنسبة إلى إسرائيل.
وفي الختام، مثلما جرى تأكيده في نقاشات المؤتمر السنوي، في ضوء الاتجاهات الآخذة بالتطور في منطقة الشرق الأوسط، لا فائدة ترجى لإسرائيل من «الوقوف موقف المتفرج» والديناميكية المتشكلة في المنطقة لا تجلب إلى عتبة إسرائيل تهديدات جديدة فحسب، بل أيضاً فرصاً، وأحياناً تهديدات وفرصاً في الوقت نفسه.
وتبعاً لذلك، يمكن المجازفة في تعيين وجهات في وسع إسرائيل السير فيها من أجل تعظيم الفرص التي تخلق لها أفقاً استراتيجياً إيجابياً، وفي عدم التردد في الإقدام.
فأخذ زمام المبادرة بحدّ ذاته لم يعد مسألة خيار، بل أصبح ضرورة حتمية.
عن «مباط عال»
*باحثان في معهد دراسات الأمن القومي.