بينما تستمر حرب الإبادة على شعبنا في قطاع غزة، وتخطف أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء دون تمييز بين طفل وامرأة، أو طبيب ومدرس، شيخ أو شاب، ويكاد هذا الموت يوحّد الغني والفقير، الإسلامي والعلماني، فبعد دخول هذه الحرب المجنونة شهرها العاشر، بات واضحاً أنها تستهدف المصير الفلسطيني باجتثاث حاضره، كما تستهدف اقتلاع أهل الضفة بإبادة أهل غزة، و تجديد نكبة شعبنا بالتهجير الجماعي.
و رغم تواطؤ عواصم القرار الدولي مع من كانوا ضحايا النازية، وصمت تلك العواصم على الفاشية المتجددة، التي ورثها هؤلاء من أجدادهم، وبدلاً من أن يكون ذلك عبرة التاريخ التي لا تُكرر، فقد باتت أصوات عدد من الناجين تصرخ اليوم "ليس باسمي". هناك الكثير من قصص التاريخ ودراسات علم النفس التي تَروي وتُوثق كيف مارس بعض الضحايا اسقاطات ماضيهم وماضي أجدادهم على ضحايا جدد، سيما أن صُنّاع الهولوكوست يواصلون الهروب من تاريخهم الأسود الذي صنعوه، وطالما هناك من سلالة الضحايا من يبدعون في استغلال هذا الماضي حتى الرمق الأخير، ويبتزون تاريخ جلاديهم كي يوفروا لماكنة ضحاياهم الجدد وقود الاستمرار.
تماماً كما يفعل نتنياهو اليوم في استثمار رقصة الدم التي تبقيه ملك نهرها النازف، غير آبه بضحاياه، ليس فقط من الفلسطينيين الذين يتعرضون للإبادة اليومية، بل ولأبناء جلدته الذين تتسع دائرة إدراكهم لمدى استعداده للتضحية، ليس فقط بمحتجزيهم، بل وبأضعاف أضعاف من سقطوا ويسقطون في حربه العبثية، التي لم يعد لها أي هدف ملموس سوى حمام الدم الذي يطفو عليه، مهما ارتفعت درجات منسوب تدفقه.
هذه ليست المرة الأولى التي تتفتق "عبقرية" نتنياهو الجهنمية، وجنون اعتقاده أنه المتوج على مملكة الموت والدمار. فلم يمر سبت ما قبل السادس من آيار الماضي دون تسريب غير معتاد، لتخريب ما كان قد تسرب له من احتمال موافقة المقاومة على ورقة الوسطاء، بمن فيهم واشنطن، والتي لا يُمكن أن تُقدم على أي أمر في هذه الحرب دون التوافق المسبق مع تل أبيب، وعندما فشل في ذلك التخريب تحدي الوسطاء والعالم بأسره، وأقدم على اجتياح رفح ومعبرها ومحورها الحدوديين، والتي اعتبرها العرب والعجم خطاً أحمر ستقوم من بعدها الدنيا ولم تقعد. إلا أن الجميع بلع لسانه، ولم ينبسّوا ببنت شفه.
مجزرة المواصي وتخريب جهود وقف الحرب
هذا السيناريو يتكرر في مجزرة مواصي خانيونس، والذريعة التي أريد لها التغطية ليس فقط على المجزرة، بل واحتمال تفخيخ ما توصل إليه الوسطاء من إطار وافقت عليه حماس وفصائل المقاومة، في سياق المرونة التكتيكية، وعينها على الهدف الاستراتيجي بالوقف الكامل لحرب الإبادة ، والانسحاب الشامل من القطاع، وفتح الحدود والمعابر، وكل الجهود المطلوبة للإغاثة والإيواء والإعمار، ذلك كله في سياق صفقة جادة لتبادل الأسرى دون الانصياع للڤيتو الإسرائيلي. أفليس هذا ما يُجمع عليه الشعب الفلسطيني من مطالب؟ إن تم تحقيقها فقد تفتح الطريق لإنهاء الاحتلال، وإن تم كسرها فقد يتأبّد هذا الاحتلال .
المزاج الدولي والإقليمي يقف عند هذه النقطة، والكل يدرك أن حرب الإبادة التي كللت مواقفهم بالعار، وتوّجت إسرائيل مملكةً لارهاب الدولة المنظم يقودها هاربون من العدالة والتاريخ على حد سواء، إلا أن هذا المزاج العام لعواصم القرار الدولي الرسمي، ورغم ما تنذر به المنطقة من تقلبات صاخبة، وتحولات غير مسبوقة على صعيد الرأي العام، وحالة من الغليان قد تطيح بالمنطقة من يد حكامها وحلفائهم، إذا ما استمر باروميتر تغييب العدالة بالصعود، منذراً بانفجار شامل، إلا أن هذا الواقع، كما يبدو لم يصل بعد بهذا المؤشر لدرجة شعورهم بالخطر الجدي على مصالحهم، أو أن مصالح من يعتقدون أنه ما زال متسعاً من الوقت والإمكانية كي يُنجز نتنياهو مهمته، في وقت أنه الأكثر قناعة بأن مهمته قد فشلت، وأنه فقط يلهث وراء الزمن، واحتمالات أن تأتي رياح الانتخابات الأمريكية بما تشتهيه سفنه. طبعاً دون القفز عن حقيقة أن مهمة نتنياهو الفعلية هي شطب القضية الفلسطينية، وتصفية حقوق شعبنا، ومحاولة إخراج غزة من التاريخ، والضفة من أي جغرافيا فلسطينية. وعلينا أن نتذكر أن تحريضات نتنياهو للوصول إلى هذا الهدف دفعت زعران عصابته لقتل رابين نفسه. فالذريعة الوحيدة التي تحرك نتنياهو هي الأيدولوجيا العنصرية المتطرفة التي يحلم بأن تتوجه ملكاً على إسرائيل، والمنطقة التي تدفع له "خاوة" حمايتها.
وللمرة العاشرة والمئة، وسنظل نتساءل للمرة الألف والمليون: ألم يدرك بعد أولئك الذين تمترسوا خلف سراب التسوية، التي فشلت حتى الموت الفعلي وليس السريريّ فقط؟
كان من الممكن "تفهم" الصمت، مع أنه ظل مريباً، في الأيام أو الأسابيع الأولى من حرب الإبادة الصاخبة في القطاع، والتي تغلي على نار متصاعدة لا يعلم مداها سوى من يعرف حقيقة مخطط الضم الذي لم يعد مجرد شعارات انتخابية، ويعرف أيضاً مدى عناد هذا الشعب، الذي لن يتخلى عن حقه في البقاء على أرض وطنه، فلا وطن له سواه، ولا كرامة له سوى في النضال الموحد لاسترداد حقوقه فيه، على الأقل كما عرفتها قرارات الشرعية ومنظومة القانون الدوليين.
نعم كان من الممكن إعطاء العذر لمن كانت صدمته فوق منسوب التحمل، سيما أن عقيدته اختزلت بالترويج دوما لقلة الحيلة. ولكن أن يستمر هذا السكون حد تزويد منظومة القتل التي باتت عبئاً سياسياً وعاراً أخلاقياً على واشنطن وتل أبيب بمساواة الضحية بالجلاد . فهذا لم يعد مقبولاً، بل إنه يكشف ظهر أصحابه، وأصحاب من يناضلون من أجل إعادة بناء الوحدة في إطار مؤسسات الوطنية الجامعة، وليس فقط ظهر شعبنا وقضيته وحقوقه، أو من يقاتلون بدمائهم دفاعاً عنها.
لا بديل عن الوحدة والتوافق
والسؤال الذي لم يعد يقبل المراوغة أو قلب الحقائق، هو من الذي أدار ظهره لدعوات الوحدة والوفاق وإرضاءً لمن؟ ورهاناً على ماذا؟ وعليه أن يعلم أن شعبنا، بمن فيه الذين لم يعودوا يحتملون جحيم الحياة في القطاع المدمى، يعلم هذه الحقيقة، ولا يمكن الاعتياش على تاريخ يجري تبديده أو على وصمة الانقسام التي يجمع الشعب على ضرورة دفنها، باستثناء من لا زالوا يراهنون على نهج استرضاء العدو، رغم أن التجربة تعلمنا جميعاً بأن الوحدة والثبات على الحق والعدالة هي من تدفع المحتل للتراجع، وتفكك إجماعه الصهيوني. هكذا فعلت الانتفاضة الأولى، قبل أن تتبدد انجازاتها في رهانات الوهم. وعلينا أن نتعلم من تاريخنا الحيّ، وأن نضع جانباً كل حسابات الوهم والفئوية، وأن نعود لارادة الشعب بالوحدة والتوافق، لصون الإنجازات ومداواة الجراح، وهي عميقة وخطيرة، وبالوحدة والديمقراطية نستعيد وحدة نسيجنا المجتمعي الذي كان دوماً سياج حقوقنا وقضيتنا العادلة.
...........
أن صُنّاع الهولوكوست يواصلون الهروب من تاريخهم الأسود الذي صنعوه، وطالما هناك من سلالة الضحايا من يبدعون في استغلال هذا الماضي حتى الرمق الأخير، ويبتزون تاريخ جلاديهم كي يوفروا لماكنة ضحاياهم الجدد وقود الاستمرار.