السيناريو الأسوأ: أن يعتاد العالم الحرب

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم : رجب أبو سرية


 

أطلق فاشيو الحكومة الإسرائيلية الحالية شعارات عديدة منذ أن أعلنوا حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، فمنهم من اقترح إلقاء قنبلة يوم القيامة، أي القنبلة النووية، وكثير منهم أجمع على تهجير سكان القطاع، إلى سيناء أولاً، ومن ثم إلى بلاد الله الواسعة، وحتى أن وزراء منهم كبستلئيل سموتريتش وزير المالية، أعلن أنه يمكن لإسرائيل أن تحتمل وجود مئة أو مائتي ألف مواطن غزي، أي ما بين 5 - 10% من سكان القطاع الحاليين، وحتى أن بعض الإسرائيليين قد بدؤوا يحضرون لإعلان "مناقصات" لبناء المستوطنات، أو لإعادة الاستيطان في قطاع غزة، وكل هذه الشعارات كانت تدل على أهدافهم الحقيقية من شن حرب الإبادة على قطاع غزة، وقد ترافقت هذه التصريحات مع رفض متواصل لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تحديد الأهداف السياسية والعسكرية للحرب، ليس للفلسطينيين ولا للعرب، ولا حتى للعالم، بل للأميركيين حين طالبه بذلك الرئيس جو بايدن طوال الوقت، وكذلك للجيش الذي يقاتل في الميدان ويشكو منذ زمن طويل من عدم وضوح الأهداف واستراتيجية الحرب لدى القيادة السياسية لإسرائيل.
وقد ساهمت جملة من العوامل على إطلاق حرب إبادة إسرائيلية في منتهى القسوة والعنف، لعل أهم الأسباب التي كانت وراء ذلك، هو تشكيلة الحكومة الإسرائيلية وتركيبتها، فهي من حيث التشكيلة، تعتبر وفق تقييم الإسرائيليين والأميركيين الأكثر يمينية وتطرفاً في تاريخ إسرائيل، ومن حيث التركيبة، تعتمد على ائتلاف مكون من خمسة أحزاب، خروج أي حزب منها يؤدي إلى فرط عقد الائتلاف وحل الحكومة، وربما حل الكنيست، وهذه الأحزاب الخمسة مقسمة إلى ثلاثة اتجاهات، الحريديم ومكون من حزبي يهوديت هتوراة وشاس، وهما حزبان يهتمان بجمهور الحريديم، ويحرصان على الإبقاء على القوانين التي تجعل من جمهورهم مواطنين من درجة أو مستوى مختلف عن باقي مواطني الدولة، فيما الاتجاه الثاني يمثله الليكود، وهو حزب اليمين التقليدي، أما المكون الثالث للائتلاف فهو اليمين المتطرف ومكون من حزبي القوة اليهودية والصهيونية الدينية، ومفتاح كل هذه التشكيلة هو نتنياهو، الملاحق قضائياً داخل إسرائيل منذ سنوات، ولذلك يتمسك بالمنصب، خشية أن تنتهي حياته السياسية في السجن، أو وفق منطق التقاعد المبكر.
العامل الثاني من حيث الأهمية، كان قوة عملية طوفان الأقصى، التي أصابت كبرياء دولة الاحتلال إصابة عميقة، فهي ألحقت بها خسائر بشرية، من حيث القتلى والجرحى والأسرى، في يوم واحد، كما لم يحدث مع دولة الاحتلال في تاريخها، باستثناء - ربما حرب أكتوبر 73 - كما أن ميدان وقوع عملية طوفان الأقصى، كان وراء الحدود الدولية، أي داخل حدود إسرائيل، وفي صلب مجتمعها، فيما كانت خسائر إسرائيل البشرية، بما في ذلك حرب 73، تقع بين صفوف جنودها المحتلين، أي على الأرض العربية المحتلة، وهذا كان في حقيقة الأمر وراء التعاطف الغربي خلال الأيام الأولى للحرب، والذي ترجمته أميركا وبريطانيا وألمانيا على شكل مشاركة في إمداد إسرائيل بالقنابل والسلاح، وكذلك بالجهد الاستخباراتي، برصد كل شبر من أرض غزة، بحجة البحث عن المحتجزين، وصولاً إلى مشاركة أميركية بريطانية فعلية في الحرب، من خلال شن الغارات من قبل سفنها الحربية وطائراتها التي أرسلتها إلى بحر العرب والبحر الأحمر على اليمنيين الذين دخلوا الحرب كجبهة إسناد لغزة.
واستناداً إلى حروب إسرائيل السابقة، التي كانت كلها خاطفة أولاً، تحسمها إسرائيل خلال أيام معتمدة على التفوق في سلاح الجو، كذلك كانت كلها تجعل من أرض الخصم ميدانا لها، أي أنه باستثناء ما تفقده إسرائيل من جنود كقتلى أو جرحى أو أسرى، وما تطلقه من ذخائر وقنابل وما يتم تدميره من طائرات ودبابات، فإنها كانت تجنب الداخل الإسرائيلي أي آثار أو تأثيرات للحرب، واستنادا إلى مقارنة القوة بين إسرائيل وفصائل المقاومة في غزة، فإن الميزان مختل تماما، خاصة في العتاد، فليس هناك طائرة حربية واحدة لدى المقاومة، ولا دبابة واحدة، وقطاع غزة عبارة عن شريط ساحلي ضيق في حجم مساحته وبسيط جداً في طبيعته الجغرافية، حيث ليس هناك جبال ولا كهوف، ولا غابات، فقط هناك أنفاق، وحتى المقارنة في عدد المقاتلين، تقول إنه مقابل نحو 40 ألف مقاتل فلسطيني دفعت إسرائيل بأكثر من 150 ألف جندي نظامي واحتياط.
ورغم هذا فإن إسرائيل فشلت عسكريا في السيطرة على قطاع غزة خلال أيام أو أسابيع، بل وفشلت في سحق المقاومة التي ما زالت تنصب الكمائن وتقاتل الجنود الإسرائيليين في كل مكان، وإسرائيل التي جوبه هدفها بالتهجير برفض عربي، سعت لجعل قطاع غزة مكانا غير قابل للحياة، بارتكاب مجازر يومية أودت بحياة 150 ألفاً خلال أقل من عشرة أشهر بين شهيد وجريح، كذلك دمرت كل ما له علاقة بالحياة في القطاع لهذه الغاية، وصحيح أنها دفعت ثمنا باهظا، تمثل بصورتها التي ظهرت عليها كدولة فاشية، ترتكب جرائم الحرب، وقد ظهر ذلك بشكل صريح، ليس من خلال التظاهرات العالمية، ولكن من خلال محكمتي العدل والجنائية الدولية، ورغم إصدار المحكمة لقرارات تطالبها بتجنب حرب الإبادة ووقف الحرب، ورغم أن مجلس الأمن أيضا طالبها بوقف الحرب، إلا أن إسرائيل ما زالت تشن حرب الإبادة على قطاع غزة، وما زالت ترتكب المجازر اليومية التي تودي بحياة نحو 500 إنسان يوميا بين شهيد وجريح.
وصحيح أن إسرائيل فشلت حتى الآن في تحقيق هدف التهجير، كذلك فشلت في إطلاق سراح المحتجزين بالقوة العسكرية، كما أنها فشلت في الوصول إلى قادة المقاومة المركزيين، ليس قادة حماس والقسام وحسب، بل ولا حتى قادة سرايا القدس، أو أبو علي مصطفى أو ألوية الناصر صلاح الدين، كذلك فشلت في سحق المقاومة التي على العكس مما هو متوقع بعد أن أكملت إسرائيل مرحلتي الحرب، خاصة وكان نتنياهو قد اعتبر عدم شن الحرب على رفح، كما طالبه المجتمع الدولي، بمثابة التوقف في منتصف الطريق، واعتبر أن دخول رفح، سيعني تحقيق الانتصار على حماس، ولم يتغير شيء، بل إن المقاومة أطلقت حرب استنزاف ضد العدو، الذي باتت أوساط الجيش منه تعلن صراحة أن قواته باتت مرهقة.
لكن المقاومة، وقد نجحت حتى الآن بالصمود كل هذا الوقت، بفضل جبهات الإسناد، ومنها جبهة التظاهرات الشعبية، إضافة إلى جبهات حزب الله والحوثي والعراق والضفة بالطبع، لكنها فشلت في فرض وقف الحرب، التي تشهد مقتل وجرح جنود إسرائيليين، كذلك خسائر اقتصادية إسرائيلية عديدة، وأهمها تهجير نحو نصف مليون إسرائيلي من بلدات الجنوب والشمال، ورغم استخدام ورقة المحتجزين ومواصلة إطلاق رصاصات الضغط الإعلامي، إلا أن تظاهرات أهالي المحتجزين لم تجبر نتنياهو على عقد الصفقة التي تتضمن وقف الحرب، رغم أن  قوساً واسعاً من بايدن إلى يوآف غالانت، وبينهما أسر المحتجزين والمعارضة واستطلاعات الرأي كلها تريد مثل هذه الصفقة التي وافقت عليها حماس أكثر من مرة.
نجح نتنياهو، رغم كل شيء في مواصلة حرب الإبادة كل هذا الوقت، ورغم الرفض الدولي ومنه الأميركي للحرب في رفح، إلا أنه دخل رفح منذ أكثر من شهرين، وواصل ذر الرماد في عيني بايدن، وواصل تخديره بالمسكنات، وهكذا فإن أسوأ السيناريوهات هو أن تتواصل الحرب إلى ما لا نهاية، أو إلى أجل غير معلوم، كما استهجن ذلك بايدن نفسه قبل نحو شهرين، عشية دخول جيش الاحتلال رفح، والغريب أنه ليس أن الحرب متواصلة ومستمرة فقط، بل المجازر اليومية بحق المدنيين، فيما صمتت التظاهرات المنددة، وحتى أن مجلس الأمن والجمعية العامة، توقفا عن مقاومة الحرب، وكأن الجميع قد تعود مشهد القتل الجماعي، بما يتضمنه من حرب تجويع وحرق كل مظاهر الحياة، وهذا قد يعني أن الأسوأ هو أن يتواصل هذا المشهد حتى سنوات قادمة، أو على الأقل إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، أي حتى العام القادم.
وهناك أمثلة حرب أوكرانيا حالياً وحرب فيتنام قبل عقود، وحتى الحرب الأميركية في العراق وأفغانستان، التي استمرت سنوات، لكن يبقى احتمال أن تتواصل الحرب في غزة، ببقاء المقاومة بخير، أي دون أن يسقط رأسها، ودون أن تتوقف عن المقاومة، فيما تتواصل الحرب من جهة إسرائيل بقتل المدنيين بالجملة، وتدمير كل ما تبقى من مظاهر الحياة في غزة، أو تتوسع الحرب لتشمل الإقليم، وهكذا فإن وقف الحرب فوراً هو الخيار الجيد الوحيد، ودون ذلك خيارات كل واحد منها أسوأ من الآخر.