أُعجِب وزير الدفاع الإسرائيلي بمنظر النار المتصاعدة من خزانات النفط اليمنية، واصطهج معظم قادة دولة الاحتلال فرحاً بأنّ منظر النار المشتعلة بقوة قد "أعاد" لها قوة الردع التي كانت تبحث عنها على مدار الشهور الطويلة لهذه الحرب.
وليس مستبعداً أنّ بنيامين نتنياهو قد "فرك" يديه هو بدوره على هذا "الإنجاز" الذي أراده أن يكون مدوّياً بما يكفي، "لتلقين" إقليم الشرق الأوسط كلّه درساً من دروس فنّ الردع على الطريقة الإسرائيلية المستحدثة في سياق هذه الحرب الدائرة في هذا الإقليم.
لم يتأخّر الردّ اليمني، وأُعلن على لسان أعلى مستوى سياسي في البلاد أنّ اليمن في ضوء هذه الضربة سيدخل في مرحلة خامسة وجديدة من معركته لإسناد غزّة، مؤكّداً أنّ اليمن ليس شريكاً "ثانوياً" في محور التصدي للعدوان الإسرائيلي على القطاع، وأنّ دولة الاحتلال ستكتشف قريباً أنّ ضربتها الاستعراضية ضد اليمن ستجرّ عليها المزيد من الأعباء التي ستدفعها من أمنها قبل كلّ شيء، وأن "حلمها" بإبعاد اليمن عن دائرة الفعل والمشاركة وهم فارغ من أيّ مضمون أو حقيقة.
على العكس من ذلك كلّه، فقد أخذ اليمن في ضوء الضربة الإسرائيلية شرعية جديدة في توسيع مشاركته في هذه الحرب، وبات أكثر حرّية في اختيار أهدافه، وفي تحديد دوره بأبعد من مرور السفن الإسرائيلية، أو السفن التي تقصد الموانئ الإسرائيلية.
لا تريد الدولة العبرية أن تعترف علناً على الأقل بأن اليمن لديه إمكانيات أكبر بكثير مما يحاول "الغرب"، وبعض العرب أن يصورها على أنّها إمكانيات "متواضعة"، وهي لا تشكّل شيئاً جدياً في معمعان هذه الحرب.
الحرب التي تدور الآن لا تحسمها القدرة على القتل والتدمير، ولا الإرعاب والإخافة.
هذه الحرب يحسمها من لديه إمكانية أن "يُحيّد" التفوق الإسرائيلي، وأن يجعل من هذا التحييد نقطة قوة قد تصل إلى شلّ التفوق الإسرائيلي.
"الياسين" - على سبيل المثال - أخرجت القوة التي تتمتع بها دبّابة "الميركافا" الإسرائيلية من الميزان الميداني المباشر، أو أصبحت تشكل تهديداً حقيقياً لها، رغم أنّ هذه الدبّابة، وباعتراف كل الخبراء العسكريين على مستوى العالم كله بأنها واحدة من أفضل دبّابات العالم، وهي مصنّفة من بين أعلى وأهم دبّابات العالم، وقد يكون تصنيفها في المرتبة الرابعة أو الخامسة.
"الكورنيت" من جانبه كان قد أسهم بصورةٍ مباشرة في "تحييد" هذه الدبّابة في الحرب بين الدولة العبرية و"حزب الله" اللبناني في العام 2006.
المعركة التي تدور في القطاع، وعلى جبهة جنوب لبنان، وعلى جبهة اليمن البحرية تحسمها القدرة على توجيه ضربات بالطائرات المسيّرة والصواريخ الموجّهة، وليس الطيران الحربي، والقدرة على تهديد وتحييد الدبّابات والمدرّعات أثناء التوغّل والاجتياح، خلال محاولات الاقتحام.
فشلت كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية في منع اليمن من تهديد السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، بل وفشلتا في الحفاظ على "أمن" بعض الحاملات والمدمّرات، وقطع الحرب البحرية، ووسّعت اليمن من تصدّيها لهذه المهمة بصورةٍ أكبر بكثير مما كان عليه الأمر قبل مشاركة الولايات المتحدة وبريطانيا في قصف مواقع يمنية يعتقد بأنها مخازن للطائرات المسيّرة والصواريخ التي استخدمتها القوات المسلّحة اليمنية الموالية لـ"أنصار الله" الحوثيين.
الحديث عن كلّ السلاح، الذي تستخدمه قوات "الحوثيين" ويأتيها مباشرةً من إيران، حديث يفتقر للدقّة.
من المؤكّد أن إيران تزوّد القوات اليمنية الموالية لها ببعض أنواع السلاح، ومن المؤكّد أن الخبرات العسكرية الإيرانية قد تم نقلها إلى اليمن، لكن الذي لا يريد "الغرب"، وبعض العرب أن يعترفوا به "علناً على الأقل" هو أن اليمن، ومنذ عدة سنوات قد انتقل إلى مرحلة الإنتاج المباشر، وبإمكانيات يمنية جدية في مجالات عدة، خصوصاً في مجال الطائرات المسيّرة، وبعض أنواع الصواريخ.
السلاح الذي لدى اليمن سلاح جدّي للغاية من زاوية القدرة على الإسهام في شلّ مفعول التفوق الإسرائيلي، والذي هو تفوق لا يرقى إليه الشك من زاوية القوات الجوية، ومن زاوية القدرة على السيطرة والتدمير من الجوّ.
مشكلة دولة الاحتلال في "تحييد" الدور اليمني بهذه الحرب تكمن في أنّها لا تستطيع تدمير مخازن الأسلحة اليمنية، وذلك لبعد المسافة، والحاجة إلى الطيران لأكثر من 1600 أو 1700 كيلومتر، والحاجة إلى التزود بالوقود، وهي عمليات معقّدة ومكلفة جدّاً، وليست مضمونة الفعالية والتأثير بالنظر إلى الطبيعة الجبلية لليمن.
هذا على مستوى المسافة، أما على مستوى المعسكرات، وأماكن تجمّع القوات، فليس لدى دولة الاحتلال ومن قبلها الولايات المتحدة وبريطانيا أيّ قدرة على الوصول إليها في مثل هذه الظروف، في حين أن اليمن يستطيع أن يرسل مئات، وربما آلاف "المُسيّرات"، إلى أهداف في كل جغرافيا إسرائيل.
وإذا صحّت الأنباء عن امتلاك اليمن لصواريخ بعيدة المدى وموجّهة، وفرط صوتية، فإنّ مشكلة دولة الاحتلال عند هذه النقطة بمثابة ورطة كبيرة، ليس لديها من حل للخروج منها سوى أن توافق على إنهاء الحرب العدوانية في/ وعلى قطاع غزة.
"النشوة" التي بدت على وجوه القادة والجناة الإسرائيليين بعد "الحريق" في "الحديدة" ومنظر النار لن تجدي كثيراً في رؤية الواقع المرّ الذي تعيشه دولة الاحتلال من تآكل الردع الحقيقي، وليس صورة الردع المشتعلة.
وإسرائيل لا تملك في الواقع أكثر من الذهاب إلى هناك مرة أخرى، أو لعدة مرات من أجل قصف المدنيين، وقصف البنية التحتية في اليمن، تماماً كما فعلت في القطاع.
لاحظوا أن إسرائيل طوال الوقت تتحدث عن "نموذج" غزة لإخافة لبنان، أي نموذج القتل والتدمير، قتل المدنيين وتدمير البُنى التحتية.
ولاحظوا أيضاً أن "إرجاع" لبنان إلى "العصور الحجرية" تهديد ينطوي بالضبط على هذين الأمرين بالذات.
أقصد أنّ إسرائيل تقيم نظرية "الردع" ليس على الأساس العسكري الميداني وإنّما على أساس القدرة على القتل والتدمير.
سابقاً كان التفوق الإسرائيلي يقوم أساساً على الجانب العسكري الميداني، وكان سلاح الجو عماد هذا التفوق.
منذ سنوات فقدت دولة الاحتلال هذه الميزة من الردع، وبعد بروز حروبها مع منظمات مقاومة سقطت هذه الميزة بالكامل، ومع امتلاك قوات المقاومة "المُسيّرات" والصواريخ التي يمكن أن تقتل وتدمّر أصبح التفوق الجوّي الإسرائيلي محصوراً في "المناطق" التي لا تمتلك بعد مثل هذه الصواريخ، و"المُسيّرات"، وهذا حال القطاع مع الأسف.
باختصار الضربة/ العدوان على اليمن لم تغيّر، ولن تغيّر شيئاً جدّياً واحداً في معادلة تآكل الردع الإسرائيلي.
بل أكثر من ذلك، إنّ "ردع" اليمن من قبل بعض قوى الإقليم، بعد أن عجزت الولايات المتحدة وبريطانيا عنه، وستعجز دولة الاحتلال حتماً بعدهما.. بعد كلّ هذا العجز، فإنّ أحداً في الإقليم لن يدخل في لعبة "ردع" اليمن، وأغلب الظنّ أن اليمن قد ربحت مؤقّتاً هذا المجال، وخسرت الدولة العبرية كل مراهنة على أيّ دورٍ من هذا القبيل.