في سابقة من التضامن العربي، لم تجرؤ أن تفعلها دولة من دول المنطقة، قام أنصار الله الحوثي بتوجيه ضربة موجعة كرسالة بالغة الدلالة في قلب تل أبيب.. لقد فضحت (هذه الضربة) كذبة الدولة التي لا يغلبها غلَّاب، وجيشها الذي لا تقهره الأحزاب، حيث تمكنت مُسيِّرة يمنيِّة الصنع من قطع آلاف الكيلومترات وضرب عاصمة الكيان، في سياق المناصرة والإسناد وكسر عنجهية الاحتلال، الذي تمرَّد على كلِّ النداءات العالمية، ولم يبدِ تراجعاً في سياسة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة.
إسرائيل التي لم تردعها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، وتطاولت على كلِّ القرارات التي أدانتها بارتكاب جرائم بحق الإنسانية، وطالبتها بوقف العدوان وكبح سياسة البلطجة على شعب محدود القدرات والإمكانيات القتالية.. جاء الرد من اليمن، من حيث لم نحتسب، لجدع أنف الغطرسة الإسرائيلية، وإرسال رسالة إلى أمة العرب فحواها "هيهات منَّا الذِّلة"، وأنَّ حالة الخنوع والخدلان لا تليقَ بأمةٍ كانت عظيمة؛ بتاريخها وفتوحاتها، التي وصلت إلى أبواب العاصمة النمساوية فيينا.
اليمن ليس دولةً خارقة في إمكانياتها وقدراتها العسكرية، ولكنها حملت سيفَ الرجولةِ دفاعاً عن كرامة الفلسطينيين ونُصرة لمظلوميتهم، في حين ناخت كلُّ مظاهر الكبرياء، واستسلم العرب والمسلمين للبعبع الأمريكي؛ حامي حمى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ومايسترو الإبادة الجماعية على المستضعفين من أبناء أمةٍ بلغت شمس عزتها -يوماً- آفاق العالمين.
نعم؛ قد تكون الأمة قد استوفت مستويات انحطاطها الفكري، وتصدع كلّ ما يجمع شمل رسميَّاتها السياسية، ولكنَّ الرسالة القادمة من العاصمة اليمنية عظيمة، وفحواها: يا عرب.. يا مسلمون.. إنَّ إسرائيل هي (أوهى) و(أوهن) من بيت العنكبوت.
إن هذا الكيان الصهيوني الفاشي ليس أكثر من هيبةٍ زائفة، ولولا جرائمها ذات الطابع الوحشي وإمكانيتها الأمريكية الهائلة ما كانت لتتمرد على كلِّ الأعراف والقوانين الدولية، وإحالة النظام العالمي إلى (شُربة خُرج)، لا قيمة له ولا اعتبار.
في سياق جدلية سُنِّي شيعي، كانت هناك حكاية طويلة.. فعندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، وخرجت بشعارها أنَّ إسرائيل "غُدَّة سرطانية" يتوجب استئصالها، وأنَّ أمريكا دولة الاستكبار والشيطان الأكبر لا بدَّ من هزِّ صورتها، وكانت البداية عندما احتلت الجماهير السفارة الأمريكية في طهران، وفشلت أمريكا بكلِّ عظمتها العسكرية من تحريرهم، عبر عملية عسكرية أعدت لها أمريكا عدتها.
بدأ التآمر على الثورة الإسلامية في إيران، ومحاولة التحريض لتشويه صورتها باللعب على وتر (شيعة وسُنّة)، ودخلت دول الخليج على الخط وتمَّ توظيف البترودولار لإحداث شرخٍ هائل، وجرى شيطنة إيران واتهامها بالدولة التي ترعى الإرهاب في العالم.
للأسف؛ وفي ظل هذه الحملة الشرسة التي طالت إيران، خسرنا قدرات دولة كان بإمكانها أن تحدَّ من قدرات إسرائيل لصالح مشروع (حلّ الدولتين)، واستعادة الحقوق وردِّ الاعتبار للمظلومية الفلسطينية، بعد أن خسر العرب والعالم السُنِّي ما لهم من هيبةٍ وقدراتٍ في ردع إسرائيل كدولة مارقة بالمنطقة.
بدأ العرب بعدما انتهى الصراع على أساس سُنِّي وشيعي، في التقاط الأنفاس، وكانت لقرارات سماحة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بفرض معادلة جديدة للصراع مع إسرائيل، مفادها عدم الاستفراد بالفلسطينيين، والتي سبق لإسرائيل أن تمكنت من عزلهم ومحاصرتهم، والعمل على كسر شوكتهم وتهديد مستقبل وجودهم.
لا شكَّ أنَّ إيران أسهمت في تعزيز قدرات جبهة المقاومة الفلسطينية، وإن كان البعض يُشكك في دوافع هذا الأمر، ويعتقد أن ذلك تمَّ ضمن مخطط مدروس، لإحداث وقيعةٍ بين فتح وحماس تفضي لاقتتال داخلي، بهدف شرذمة الصف الوطني والإسلامي.
ومع رفضنا لوجود مثل هذا التشكيك في النوايا الإيرانية، فإن إيران الخميني قد أولت القضية الفلسطينية اهتماماً خاصاً، وأعطتها مكانةً في حساباتها الاستراتيجية "كمحرّك لنبض الأمة"، وحشد قدراتها بالعُدّة والاستعداد، بما يشيء إليه المفهوم السياسي: "واحدٌ بسيفه مع الجميع، والجميع بسيوفهم خلف الواحد".
للأسف؛ مع إنحراف البوصلة، واستمرار وضعية التشظي والانقسام الفلسطيني والإخفاق في حالة الجمع بينهم، حدثت حالاتُ استقطابٍ في المشهدية السياسية على خلفيات شيعية سُنِّية!!
كانت حركة حماس والحكومة التي انبثقت عنها تعمل من أجل "إمساك العصى من المنتصف"، لحساسية الخلافات القائمة بين دول الخليج وإيران،
وقد أظهرت بمواقفها أنها ليست مع طرف على حساب طرف آخر، وأنَّ القضية الفلسطينية هي "قضية مركزية" تحتاج "سيف الجميع"، بغض النظر عن سياقاته المذهبية وخلافاته السياسية. كانت المعادلة أمام التيار الإسلامي (حماس والجهاد الإسلامي) تستعصى على الحلِّ، مما أعطى لبعض مروجي الفتن، ومهندسي سياسة الوقيعة بين إخوة الجغرافيا والتاريخ والثقافة المشتركة، الفرصة لـ"مناصبة شباك العداء" فلسطينياً ومع محيط الجوار العربي والإسلامي.
اليوم، ومع تجليات الفعل المقاوم والحرب على قطاع غزة، نجح حزب الله اللبناني وأنصار الله اليمني في جعل معركة الوقوف مع الفلسطينيين بمثابة "مشاغلة" فاعلة لإسرائيل، تأتي في سياق تحريض الأمة على القتال والضغط على دولة الاحتلال، وتوفير حالة من الإسناد والنُصرة تتخطى حالة الاصطفاف الديني.
في الحقيقة، تجاوزت مواقف حزب الله المشاغلة، وأصبح شريكاً في ولاية الدم وكُلفته، وما تمخَّض عنه من تضحيات جسام، وربما الانخراط في قلب الصراع إلى أبلغ مداه.
اليوم، جماعة أنصار الله الحوثي هي جماعة (شيعية)، إلا أنها تسامت على الجدلية الشيعيِّة السُنيِّة؛ باعتبار أنَّ القضية الفلسطينية هي قضية الأمة الإسلامية، وأنَّ من العار ألا تتوحد المواقف والجهود على إسنادها ونُصرتها.
كانت عملية تل أبيب تحولاً نوعياً في المواقف لصالح القضية الفلسطينية، ولصالح الأمة الواحدة التي عُصبتها الدين والقومية.
اليمن اليوم، تخطى العصبية الشيعية إلى نهج الأمة بمقوماتها الدينية والقومية.
وبناً على ما قد سلف، فإن إسرائيل ستفشل في سياسة الاستفراد بالفلسطينيين وتمرير مشروعها بالتهجير القسري؛ لأن "مشجب العار" سيظل يلاحق كلَّ من تواطؤ وخذل أمته والتزم الصمت من الرسمِّيات الغربية والإسلامية، وكأن كلَّ ما يحدث في فلسطين لا يعنيه ولا يُلزمه بالتحرك لاتخاذِ مواقفٍ غير مشهدية الاستخذاء (ُصمٌّ.. بكمٌ.. عميٌ).
إنَّ جماعة حزب الله وأنصار الله الحوثي وهذا الدعم والإسناد للمقاومة الفلسطينية السُنيِّة في كلِّ العواصم الغربية، إنما هو تعبير عن حالة تضامن ارتقت بأخلاقياتها وأحاسيسها المذهبية ومشاعرها القومية من الدفاع عن المظلومية الفلسطينية؛ باعتبارها قضية تخص مستضعفي الأمة بخلفياتها الشيعية السُنيّة، لحساب ما ينتظرنا من قدر ومصير مشترك.
إنَّ توجيه ردٍّ إسرائيلي لمدينة الحُديدة كرسالة انتقام من جماعة أنصار الحوثي، لن يثني هذه الجماعة عن الرد وفي سياق أعنف، قد يردع الإسرائيليين ويدفعهم للتفكير بوقف الحرب أو التصعيد الذي لن تكون مآلاته إلا "مرج البحرين" للالتقاء في مشهدية
"وعد الآخرة" ولو بعد حين.