بدت حماس خلال الأشهر الأخيرة معنية بالتوصل إلى صفقة، بشكل ملموس وملحوظ، وكأنها بحاجة إلى هذه الصفقة، ووصل الأمر إلى أن يراها البعض قد تنازلت عن بعض مما تمسكت به. وبالقدر نفسه بدا نتنياهو، بالتحديد، لا يريد مثل هذه الصفقة، وأنه يتهرب ويماطل ويشترط ويناور، وقد رآه البعض يتعمد تخريب ما عكف الوسطاء على صياغته أشهراً طويلة، وبهذا كان يقصد الإساءة لهؤلاء الوسطاء، والحط من قيمتهم، وتشويه صورتهم أمام شعوبهم وشعوب أمتهم، بقصد أو من دون قصد.
لقد بدت الصورة الكاملة عن بعد، صورة طرفين، الأول يريد الصفقة بإلحاح، والثاني لا يريدها بإلحاح، وبنظرة متفحصة في العمق، تبدو الأمور واضحة ويمكن تفهمها، إذ من الطبيعي أن تذهب المقاومة إلى عقد الصفقة، ففي ذلك وقف الحرب الإبادية التدميرية التجويعية على الشعب الفلسطيني، بكل فئاته وفي المقدمة الأطفال والنساء وبقية المدنيين الأبرياء. لقد تنوع عذابهم بما لم يتعذبه بشر من قبل، ولقد تمددت صنوف العذاب حتى كادت تطبق عليهم حولها الأول، من الخريف إلى الخريف، ويدرك الناس في العالم، الأحرار والعبيد، أن هذا العذاب الشديد والطويل، إنما هو بفعل فاعل، وأنه حدث مع سبق الإصرار والترصد والتشفي والتلذذ، وبدعم دولي مباشر، بالمال والسلاح والمرتزقة وبحماية أممية، تمثلت بالفيتو الأمريكي عدة مرات، ومحكمة عدل دولية تصدر قراراً بعد ستة أشهر استشارياً، ومحكمة جنايات تنتظر مجرم الحرب أن يسافر إلى أمريكا، ويكمل مشواره لكي تقول له أنت مجرم حرب، وصمت أخوي عربي إسلامي كصمت القبور، وكأنا بهم يهمسون في أذن نتنياهو ان عجّل في إنهاء مهمتك.
وبالقدر الذي بدت فيه المقاومة حريصة على التوصل إلى الصفقة، بدا مفهوماً رفض نتنياهو لها، فهو سيذهب إلى السجن المحلي أو الأممي أو الاثنين معاً، وهو سيذهب إلى انتخابات مبكرة لن يحصل فيها حزبه على مقاعد كافية لتكليفه بتشكيل حكومة جديدة. إنه يرى بينه وبين أن يكون "ملك إسرائيل" الرابع بعد شاؤول وسليمان وداود، وبين أن يكون فاشلاً ومرتشياً وخائناً "للأمانة"، مجرد خيط رفيع، خيط من شهر إضافي لاستمرار الحرب، قد يقتل فيه بعض قيادات أو مقاتلي حماس مع "أضرار جانبية" من بضعة آلاف من الفلسطينيين، وقد يعثر خلاله على بعض الأسرى، "لا بأس إن كانوا أمواتاً، أو أحياءً نقتلهم، فنعيدهم إلى ذويهم جثثاً. المهم أن نمنع السنوار من إلقاء خطاب النصر، وأن نمنع إطلاق سراح آلاف الأسرى الملطخة أياديهم بدماء اليهود".
إن المصير الذي ينتظر نتنياهو، بصفقة أو بدون صفقة، هو المصير الذي وصله بايدن، بانتخابات أو بدون انتخابات، ببساطة، لأن دماء أطفال غزة مثقلة بها أياديهم ونواجذهم. أما أولئك الذين عمدوا إلى تحميل مسؤولية هذه الدماء الزكية لحماس، فينفع معهم ما قالته زوجة الشهيد الرمز خضر عدنان عندما أخذوا عليه إضراباته المفتوحة عن الطعام بأنها ترقى إلى "الانتحار" المحرم في الإسلام، لقد قالت لهم: لا يفتي قاعد لمجاهد، ولا متخاذل لمقاتل.