أقل ما يمكن أن يقال عن حرب الإبادة، بأنها قد طالت أكثر مما ينبغي، وذلك ليس لأن المقاومة الفلسطينية حققت حتى الآن إعجازاً منقطع النظير، وفاجأت الدنيا كلها، بالبقاء فاعلة كل هذا الوقت، ورغم كل هذا الدمار والقتل، وليس أيضا لأن إسرائيل أظهرت فشلاً عسكرياً غير متوقع، بعد فشلها الأمني، ولكن لأنه سمح للطغمة الفاشية الإسرائيلية بمواصلة هذه الحرب كل هذه المدة، دون أن يتدخل المجتمع الدولي، ويجبرها على التوقف، على الأقل منذ نحو ثلاثة أشهر، أي قبل أن تشمل حرب الإبادة مدينة رفح آخر معقل للنازحين، الذين أجبرتهم الحرب على رفح على أن يهيموا على وجوههم، دون أي مكان يتوفر فيه الأمن الوهمي حتى، وحين صدر قرار محكمة العدل الدولية بعدم شن الحرب على رفح، وكذلك حين صدر قرار مجلس الأمن في نفس الوقت تقريباً، الذي نص على وقف الحرب فوراً.
والمجتمع الدولي، إن كان عبر محكمتي العدل او المحكمة الجنائية، كان واضحاً في موقفه ضد إسرائيل، حيث رأى أنها تقوم بشن حرب إبادة جماعية، وأكد أنها ترتكب جرائم الحرب تباعاً، وقال ذلك أيضاً أكثر من مرة عبر الجمعية العامة، ومجلس الأمن، وعبر موظفي الأمم المتحدة الكبار، لكن النظام العالمي، ممثلاً بمجلس الأمن هو الذي لديه المشكلة التي حالت دون أن تتوقف حرب الإبادة الإسرائيلية حتى الآن، وأن تستمر كل هذا الوقت، وبالتحديد المشكلة هي عند الولايات المتحدة، وليس عند أي أحد آخر، فكل مشاريع قرارات مجلس الأمن التي طرحت على الطاولة منذ بدء الحرب، تعطلت بسبب الفيتو الأميركي,
والحقيقة أن أميركا لم تكن تبدو هكذا في "الجيب" الخلفي لإسرائيل من قبل، أو أن يبدو البيت الأبيض، كما لو كان منتجعاً لرئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، نقول هذا لأن أميركا منذ بداية الحرب كانت تعلن خلافاتها مع إسرائيل تباعاً، ثم تفرض إسرائيل ما تريده، دون أن تبدي أميركا أكثر من التعبير عن شعورها بالإحباط، وهنا لسنا بصدد تعداد تلك المواقف منذ دخل الرئيس جو بايدن البيت الأبيض قبل أقل قليلا من أربع سنوات حتى الآن، منذ أن أعلن نيته إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية المحتلة، وليس انتهاء بموقفه ضد دخول إسرائيل رفح دون ضمانات بحماية المدنيين، مرورا بالطبع بأن لا تتجاوز مدة الحرب بضعة أشهر، حتى قيل مع بدء الحرب بأنها ستنتهي مع نهاية العام الماضي، أي أقل من ثلاثة أشهر.
ولكن الأمر الذي يظهر أميركا بحالة يرثى لها في تعاملها مع إسرائيل، هو الحديث عن المساعدات الإنسانية، حيث بدلا من أن تفرض أميركا على إسرائيل فتح المعابر البرية حيث تتكدس شاحنات الإغاثة في الأرض المصرية المجاورة، ذهبت أميركا الى تدشين ميناء عائم فاشل، بلغت تكلفته أكثر من ربع مليار دولار، ولم يفعل شيئا سوى أن سمح لإسرائيل بمنع دخول الإغاثة منذ ثلاثة شهور وحتى الآن، أي منذ اجتياح رفح، واحتلال ممر فيلادلفيا الحدودي، وما زالت إسرائيل تتلاعب ببايدن خاصة في المفاوضات حول صفقة التبادل، حيث اتضح تماماً، بأن أميركا لم تستطع حتى مع غانتس والمعارضة وعائلات المحتجزين أن تفرض على نتنياهو وقف الحرب، رغم ان كل هؤلاء يدركون بأنه يواصل الحرب حتى يهرب من الملاحقة القضائية وحتى يبقى في منصب رئيس الحكومة، الى أطول فترة ممكنة، أو على الأقل حتى إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية.
يمكن القول بكل ثقة بأن نتنياهو قد تلاعب ببايدن، كما يشاء طول الثلاث سنوات السابقة، وهو لم يعره اي اهتمام، حين شكل الحكومة، ومنح الفاشيين ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وحزبيهما مناصب وزارية، واذا كان بايدن ظهر كرئيس اميركي ضعيف، أي رئيساً ديمقراطياً لا يقارن بجون كنيدي، ولا حتى بباراك أوباما، الذي كان نائباً له ما بين عامي 2008_2016، حيث مرر أوباما، الذي منعه نتنياهو من تحقيق المصالحة التاريخية مع العالم الإسلامي، عبر التوصل للحل الدائم وفق أوسلو، رغم مكوكية كل من هيلاري كلينتون وجون كيري، حيث اغلق نتنياهو بوابة التفاوض نهائياً بعد ان كان يتلاعب بها، كما يتلاعب اليوم بمفاوضات صفقة التبادل، وذلك عام 2014، فرد عليه أوباما بتمرير قرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي اعتبر كل الاستيطان بما في ذلك في القدس الشرقية غير شرعي وطالب إسرائيل بوقفه فوراً.
وبالطبع بايدن ليس هو جورج بوش الأب، الذي في عهده تم تدشين النظام العالمي الجديد أحادي القطب الأميركي، لكنه أيضاً في عهده تم عقد مؤتمر مدريد للسلام، رغم أنف إسرائيل، وكانت إسرائيل محكومة بإسحق شامير، والذي لم يكن يقل تطرفاً عن بنيامين نتنياهو، ورفض اي وجود فلسطيني ضمن وفود مدريد، ورغم أن مؤتمر مدريد قد انعقد استجابة للمطالبة الإقليمية بتراجع أميركا عن كيلها بمكيالين، أحدهما ذلك الذي شنت به حرباً ثلاثينية على العراق، بسبب احتلاله الكويت، فيما لا تفعل شيئا من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية الذي كان قد مضى عليه في ذلك العام 1992، 25 سنة فقط في ذلك الحين، وليس 57 سنة حتى الآن.
التقى نتنياهو الرئيس بايدن، على هامش إلقائه خطاباً في الكونغرس، وذلك ليحصل على تجديد لتفويض حرب الإبادة، وهو اي نتنياهو قد تسبب بتبديد فرصة بقاء بايدن في البيت الأبيض، بل وحتى إضعاف فرصة بقاء الديمقراطيين في سدة الحكم، وذلك لأنه افشل كل برنامجه السياسي منذ عام 2020 حتى اليوم، بدءاً من قطع الطريق على بث الحياة في الحل السياسي بين إسرائيل وفلسطين، ثم إفشال انخراط بايدن لإعادة العمل بالاتفاق المنعقد عام 2015 مع إيران حول برنامجها النووي، وذلك حتى يتفرغ بايدن لتركيز جهده في مواجهة روسيا، عبر جبهة الحرب بينها وبين أوكرانيا، وصحيح ان نتنياهو لم يفعل ببايدن ما سبق له وفعله مع ترامب، لكن النتيجة واحدة، وهي أن العلاقة بين البلدين خلال ولايتي ترامب ما بين 2016_2020، وبايدن ما بين 2020_2024، تؤكد بأن إسرائيل هي من قادت أميركا الى حيث تريد وليس العكس، وإسرائيل التي نقصدها هنا هي إسرائيل الفاشية، وليست إسرائيل الساعية للسلام والتعايش في الشرق الأوسط.
سيكون هذا هو اللقاء الأخير بينهما، ولا عزاء لبايدن، لأن نتنياهو لم يمنحه ورقة التوت، وهي عبارة عن صفقة يتم بموجبها "تحرير الرهائن الأميركيين" لتكون ورقته الأخيرة التي تبقي لحزبه أمل الاحتفاظ بالبيت الأبيض.