عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية (أيلول 1980)، كنتُ حينها في الأردن، وفي صفوف الإخوان، أتذكر كيف كانت مشاعر الجماهير آنذاك، كان المزاج الشعبي عموما منحازا لإيران، وكان الناس يسخرون من أخبار انتصارات الجيش العراقي، متأثرين بأقوال المشايخ الذين رأوا في إيران «ثورة إسلامية»، وفي العراق «نظاما بعثيا»، وعلمانيا، وكافرا.
وعندما نشبت أزمة الخليج عقب اجتياح العراق لجارتها الكويت (آب 1990)، وبدأت أساطيل الأطلسي تدق طبول الحرب، وبمجرد أن أضاف صدام حسين شعار «الله أكبر» على العَلم وأعلن الجهاد ضد أميركا، حتى صار في نظر الجمهور بطلا ومجاهدا، ويخوض الحرب ضد التحالف الصليبي، وصارت في كل يوم تخرج مسيرة حاشدة وتهتف لصدام، حتى أن الناس شاهدوا طيفه على القمر.
وبعد الهزيمة المنكرة التي تلقاها الجيش العراقي، وانسحابه من الكويت، استفاق العراقيون من غفلتهم، وأعلنوا ما سموه «الانتفاضة الشعبانية» ضد النظام، والتي سماها النظام «صفحة الغدر والخيانة» وقمعها بهجوم عنيف ومفرط في القسوة.
لنرجع إلى نفس الجمهور؛ فبعد أن كان يؤيد الشعب العراقي «المسلم» والبطل، صاروا فجأة مجرد «شيعة»، ويتبعون إيران، ولم يلتف أحد إلى معاناتهم، ومقتل عشرات الآلاف منهم، ولا للتعذيب الوحشي الذي تلقاه المعتقلون منهم.
وفي حرب الخليج الثانية، كان الجمهور ذاته ينتظر بشوق وشغف بيانات الصحاف، وحديثه عن العلوج، ووعوده بسحق الغزاة.. وهذا كان من بين أسباب أو ربما يفسر ظاهرة التفرج على سقوط بغداد على الهواء مباشرة دون أي ردة فعل شعبية (أتحدث عن الجماهير خارج العراق)، كيف تابعوا الحدث كمن يتابع مباراة في الدوري الإسباني.
وبعدها، ظهر أبو مصعب الزرقاوي، ولم يكن غريبا أنه فتن قطاعات واسعة من الجمهور «ببطولاته» و»صولاته» ضد الاحتلال، لدرجة أنه حين قُتل أفردت له «الجزيرة» موجة بث مفتوحة، وكانت تبث في الخلفية موسيقى حزينة، وكأنَّ أمير المؤمنين هو من قُتل! وقد قام بعض نواب الإخوان بتقديم العزاء بالفقيد.
لنتابع نفس الجمهور، ونقرأ كيف تصرف هذه المرة إزاء الأزمة السورية .. انقسم الجمهور بين من رأى في الأزمة ثورة شعبية عادلة ضد نظام طاغٍ ومتجبر، وبين من رآها مؤامرة كونية على محور المقاومة، وعناصرها لمم من أطراف الأرض، وإرهابيون ينفذون أجندات خارجية ومعادية للأمة.
بعيدا عن تبني أو دحض أي وجهة نظر، هذا ليس موضوع المقال، ما يلفت الانتباه أنَّ أنصار الدولة السورية ومؤيدي الرئيس بشار كانوا يستنكرون إرهاب الجماعات التكفيرية، لكنهم يغضون النظر عن إرهاب المخابرات وأجهزة أمن الدولة وممارساتها الوحشية في السجون. وفي المقابل، أنصار «الثورة» كانوا يستنكرون فظائع النظام وجرائمه، ولا يرون جرائم الجماعات الجهادية في المناطق التي سيطروا عليها.
وفي مرحلة ما، بعد تمدد «داعش»، وسيطرته على أجزاء واسعة من العراق وسورية، ومع الدعاية المتقنة التي كانوا يبثونها، وصلت شعبية «داعش» في مناطق من المنطقة مستويات مخيفة، وجاء إعدام «داعش» للطيار الأردني معاذ الكساسبة ليوقف زحف «داعش» في عموم المنطقة.
راقبوا القاسم المشترك بين هذه الظواهر والأحداث، ستجدون أولا أن المحرض والمحرك والمؤثر هم جماعة الإخوان المسلمين، وأن معيار التضامن الجماهيري كان «الشعار الديني»، حيث يأتي التأييد والدعم لكل من يرفع الشعار الديني بصرف النظر عن ماضيه وأجنداته وارتباطاته وممارساته.. هل يذكركم هذا برفع المصاحف على أسنّة الرماح في محنة صفين؟
الأمر الآخر الذي يمكن رصده، أن التضامن والدعم لم يكن للشعب بعامته، إنما للفئة أو الطائفة التي تشبهنا، كما أن رفض الظلم والطغيان والإرهاب والعدوان يأتي فقط حين يكون مصدره الجهة التي نعاديها، ونتغاضى عنه، بل وربما نؤيده حين يأتي من الجهة التي نؤيدها.
بمعنى آخر، التضامن لا علاقة له بالقيم الأخلاقية والإنسانية، إلا إذا كان مع الفئة التي تعنينا مباشرة.. ورفض الظلم ليس لأنه ظلم، ورفض الفساد ليس لأنه فساد، ورفض القتل والعدوان والإرهاب ليس لأنها جرائم مروعة ومدانة من حيث المبدأ، بل لأن من يمارسها هو من نعاديه.
لهذا السبب، من النادر جدا أن قامت الجماهير العربية بالتضامن مع شعب آخر تعرض لغزو، أو لكارثة إلا إذا كان يشبهنا في القومية أو في الدين.
لهذا السبب، تعرض العراقيون والسوريون واليمنيون واللبنانيون والليبيون والسودانيون والكثير من شعوب العالم لأزمات ومحن وحروب طاحنة وكنا نكتفي بالمراقبة والتفرج، وإذا أيدنا جهة فلأنها تشبهنا، وليس لأنهم بشر وآدميون.. وعندما يغيب المعيار الإنساني القيمي والأخلاقي لن تكترث بما يصيب غيرك، سيكون تركيزك منصبا فقط على مدى تحقيق أهدافك القومية والأيديولوجية والدينية.. وهذا يفسر تقلبات الرأي العام، والانتقائية في فهم الحديث ورؤية المشهد، ولماذا تظاهرات الأردن دون غيرها لا تطالب بوقف الحرب على غزة، ولا ترى منها سوى مشاهد بطولات القسام، وتغض الطرف عن مآسي ومعاناة النازحين، بل ترى أن من يذكرهم بها إنما هو من المثبطين والمرجفين.
ولا أبالغ إذا قلت، إن تبني الإخوان لتلك التظاهرات سببه أن من يخوض المقاومة هذه المرة حركة حماس.. فلم يحدث سابقا أن شهدنا مثل هذه التظاهرات وهذا الاهتمام، علما أن مأساة الفلسطينيين ومعاناتهم ومقاومتهم ومآثرهم البطولية لم تتوقف منذ 76 سنة.
ولا شك أن تظاهرات الأردن مهمة ومطلوبة وعظيمة، ودوافع المشاركين فيها نبيلة ومشروعة، أما أخلاق الأردنيين ونبلهم وشهامتهم ووقوفهم الأصيل إلى جانب فلسطين فهذا ليس مجال شك، وهم لا يحتاجون شهادة من أحد.
وما ذكرته آنفا هي ظواهر تستوجب التفكير والتأمل.. على أمل أن تستفيد الشعوب من تجاربها وتعيد النظر في شعاراتها الأحفورية.