ما أكثر المعلقين والمحللين ممن انتظروا بشغف خطاب نتنياهو في الكونجرس ليجدوا مادة للتحليلات، لإثبات ما هو راسخ في أذهان كل الواعين وأنصاف الواعين، وهو أن اللوبي الصهيوني يُهيمن على سدة السياسة في أميركا، ويتحدى حتى الرؤساء الأميركيين! هؤلاء الخبراء والمعلقون سيقضون أياماً يحللون ويستنكرون، ويحتجون ويستهجنون ويتهمون ويستغربون باستخدام أساليب النقد والشتم والتجريح واتهام نتنياهو بالتضليل والكذب والوقاحة وطغيان القوة في خطابه في الكونغرس قبل أسبوع!
هؤلاء المستغربون لم يكترثوا ولم يتنبهوا إلى ما قاله نتنياهو في اجتماعه مع بايدن في اليوم التالي لخطابه موجهاً حديثه إلى الرئيس بايدن: "نحن صهيونيان نجتمع اليوم ونعرف بعضنا منذ خمسين عاماً"!
إن عرض مسرحية بطولة نتنياهو على خشبة مسرح مجلس البرلمان والشيوخ وإحضاره للممثلين على المسرح هو فن سياسي ومسرحية أعدها مخرجون كبارٌ وأشرفوا على تنفيذها، وجرت بروفات عديدة قبل إخراجها إخراجاً نهائياً، هذه المسرحية تهدف لتأكيد حقيقة مكانة ومنزلة إسرائيل بالنسبة لأميركا وأوروبا، باعتبار إسرائيل لا تشبه الدول الأخرى، بل هي بالضبط قاعدة ومندوبية لعالم الديموقراطية المزعوم! هذه المندوبية أو المشروع الكبير هي رأس الحربة لأميركا وحلف الناتو في الشرق الأوسط كما قال نتنياهو في خطابه، إسرائيل هي أيضا المايسترو الذي يحرك الممثلين على خشبة المسرح!
اكتشف كثيرون اكتشافاً خطيراً؛ أن نتنياهو زعيم استئصال غزة بساكنيها، هو ديماغوجي مُضلل، وأنه لا يقول الحق والصدق، وأنه ممثل بارع! هذا الاكتشاف الجديد يكشف جهلاً بأبسط مفاهيم السياسة، فالسياسة هي إحدى الألعاب السحرية، يُستخدم فيها كل أشكال الخداع، وهي تعتمد أساساً على عدم قدرة جمهور المشاهدين على حل ألغاز اللعبة السحرية ومعرفة الحقيقة، هذه الألعاب السحرية تجري منذ فجر التاريخ في كل دول العالم، وهي تعني في أبسط معانيها؛ قطع رقبة الخصوم بغير سكين!
كثيرون لا يعرفون الحقائق، حقائق تأثير اللوبي الصهيوني على أعضاء الكونغرس، قليلون هم الذين يعرفون أن لكل عضو كونغرس أميركي مرافقاً من "الأيباك" يرافقه كالظل، هذا المُرافق يلازم عضو الكونجرس كظله أينما حل وارتحل، وهو المسؤول عن دعمه مالياً، ومنع تأثيرات الغلاف الخارجي المعادي لإسرائيل على عضو الكونغرس، حتى أن أحد أعضاء الكونغرس من الحزب الجمهوري، وهو توماس ماسيه فضح ذلك في شريط فيديو متاح على شبكات الإنترنت قال: "لكل فرد في مجلس النواب والشيوخ الأميركي (baby-sitter) صهيوني معيَّن من "الأيباك" مرافق دائم يشبه مربية الأطفال، يلازمه أينما حل وارتحل، يدعوه في البداية إلى تناول الطعام معه، ثم يلتصق به، ثم يحصل على رقم هاتفه الخاص، أيضاً يمنع عنه المعارضين أعداء إسرائيل، حتى لا تنتقل عدوى معارضي إسرائيل ومنتقديها إليه، ثم يعرضون عليه السفر لإسرائيل"؟!
إن كثيرين أيضاً يغضون الطرف عن أكبر المنظمات الداعمة لإسرائيل في أميركا وهي مسجلة كجمعية صداقة أميركية إسرائيلية، يتنافس على ودها وكسب تأييدها، للحصول على الأموال اللازمة لمعركة الانتخابات هي، "الأيباك" وهي ذات التأثير الضخم في الحزبين الجمهوري والديموقراطي، وقد تابعتُ صفحتها الإلكترونية واقتبستُ منها ما ورد في النشرة الصهيونية الإلكترونية، صرح رئيس "الأيباك"، بتسي كورن يوم 16-12-2021م:
"ستغير "الأيباك" استراتيجيتها التقليدية، بحيث تكون قادرة على تغيير البيئة السياسية الأميركية في واشنطن، وتدعم مناصري إسرائيل في الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، وستدعم كذلك المرشحين للكونجرس، مع العلم أنها منذ تأسيسها قبل سبعين عاماً لم تدعم الحملات الانتخابية للمرشحين بالمال، أما اليوم فسوف تقوم بذلك، بواسطة استحداث لجنتين، ما سيجذب مليوناً ونصف مليون عضوية جديدة لعضوية الأيباك"!
علق رئيس "الأيباك" الديموقراطي السابق، ستيف غروسمان، وهو عضو اللجنة الاجتماعية في الكونغرس، على هذا التحول قائلاً: "هذا التغيير في منظمة "الأيباك" سيجعلها مؤثرة في السياسة الأميركية في هذا الوقت الحساس"!
وبمناسبة مشروع قرار الكنيست الإسرائيلي الجديد الذي ينص على أن منظمة الأونروا هي منظمة إرهابية وطابور خامس، لأن عدداً من موظفيها هم من حماس والجهاد وهم متورطون في أحداث السابع من أكتوبر! بمناسبة هذا الحدث فإن هناك اتصالات تجري بين الخارجية الإسرائيلية، مع منظمة الأيباك، لإقناع أعضاء الكونجرس بإصدار تشريعات تمنع تقديم المعونات للأونروا، ومحاصرتها حتى تتخلص من أخطر قضايا فلسطين (حق العودة)!!
ما أكثر الذين لا يعرفون أن منظمة بني بيرث، Bnai Brith، هي أكبر المنظمات اليهودية وأقدمها، أسست عام 1863، هي من أكثر المنظمات دعماً لإسرائيل. ومحاربة اللاسامية، لها مراكز عديدة في كل أنحاء العالم، أبرزها 42 مركزاً لرعاية المسنين اليهود في أميركا وحدها، لها صندوق للطوارئ والأزمات، لها تأثير وارتباطات دولية، لأنها كانت حاضرة مهرجان تأسيس الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هناك اثنتان وثلاثون منظمة يهودية صهيونية مؤثرة في كل مجالات الحياة، الاقتصادية والسياسية في أميركا، بالإضافة إلى ذلك فإن أضخم دعم للحزب الديموقراطي مصدره الرئيس جمعيات وتنظيمات يهودية، بحيث يقدر الباحثون بأن أكثر من ستين في المائة من دعم الحزب الديموقراطي مصدره رأس المال اليهودي، أما الحزب الجمهوري فيحصل على ثلاثين في المائة فقط ، أي أقل من الحزب الديموقراطي!
يبدو أن حضور نتنياهو إلى واشنطن، وإلقاءه خطاب افتتاح مسرحية الكونغرس كانت له أهداف أخرى لم يُعلن عنها ولم يتم تحديدها بدقة، يمكن التكهن ببعض ما خفي منها، وهو تدشين عودة دونالد ترامب رئيسا لأميركا بعد تطويعه ووعده بدعم اللوبي الصهيوني في حملته الانتخابية، كي يفوز في انتخابات المرحلة المقبلة، لكي يكمل خطواته السابقة، وهي التي أشار إليها نتنياهو في خطابه وهي إنجازات إسرائيلية مهمة تصب كلها في خدمة إسرائيل، وهي ما فشلت فيه كل حكومات الحزب الديموقراطي وأبرزها، نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والاتفاقيات الإبراهيمية، وإلغاء اتفاقية السلاح النووي مع إيران، والاعتراف بضم إسرائيل لهضبة الجولان، الاعتراف بالمستوطنات ضمن حدود دولة إسرائيل، وأخيراً، تجاهل وغض الطرف عن الشعار الزائف للديموقراطيين، وهو المزعج جداً لإسرائيل، وهو تبني الحزب الديموقراطي شعار حل الدولتين، كل ذلك يصب في تعزيز هيمنة إسرائيل كقوة كبرى ومشروع غربي على الشرق الأوسط كله!
أخيراً سأظل أذكر، مايك بنس نائب الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو أستاذ ترامب وموجهه العقدي الديني، كان بنس متزمتاً عقدياً لا يسمح لأية امرأة تدخل مكتبه إلا بوجود زوجته أو شخص آخر في عقيدته (الصهيومسيحانية) الدينية وهي ما يؤمن به ترامب إيماناً قاطعاً، لأنه محدود الثقافة، تتلخص هذه العقيدة المسيحانية في عقيدة: لن يعود المسيح إلا بتأسيس إسرائيل وتنمية مستوطناتها، وتعزيز قوتها العسكرية لتهزم جيرانها كلهم!