ما حصل، أول من أمس، عندما اعتقلت الشرطة العسكرية الإسرائيلية تسعة جنود بتهمة تعذيب معتقل فلسطيني جنسياً، وردود الفعل المتمردة من المستوطنين من ضباط احتياط وأعضاء كنيست ونشطاء من اليمين العنصري المتطرف، الذين اقتحموا قاعدة "سديه تيمان" ومكان احتجاز الجنود المعتقلين في بيت ليد، يشي بأن وحدة المؤسسة العسكرية التي كانت حتى حرب أكتوبر مقدسة باتت في مهب الريح. ولم يعد هناك ما يوحد الإسرائيليين. فلم تعد الخلافات سياسية ولا حول قضايا إدارية أو تشريعية، بل طالت العمود الفقري للدولة والذي يشكل العنصر الموحد لها، بعد أن تناثرت الأفكار الأيديولوجية وتبعثرت إلى كتل مختلفة ومتناقضة ومتصارعة فيما بينها، وطالت مسائل تتعلق باستمرار وجود دولة إسرائيل.
من الطبيعي أن تكون هناك خلافات داخل إسرائيل كأي مجتمع أو نظام سياسي، والخلافات تكون حول البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تعبر عن وجهات نظر الكتل المختلفة الممثلة بأحزاب سياسية لها مقاعد داخل البرلمان أو هامشية لا تنجح في الوصول إلى البرلمان، ولكن الخلافات في إسرائيل منذ السابع من أكتوبر طالت عصب الدولة ومحور ارتكازها وهو الجيش الذي كان طوال الوقت موضع إجماع يهودي إسرائيلي وبمثابة البقرة المقدسة في المجتمع. فهو لم يعد كذلك بل أصبح مثل كيس الملاكمة، ليس فقط فقد قدسيته واحترامه، بل أيضاً أضحى نقطة الضعف الذي تعلّق عليه شماعة الأخطاء التي ارتكبها ولم يرتكبها بما فيها أخطاء السياسيين الإسرائيليين، خاصة حكومة التطرف اليميني العنصري بقيادة بنيامين نتنياهو.
في الواقع، منذ فوز الائتلاف الحاكم في إسرائيل، أصبح الصراع الداخلي حول نظام الحكم أو بالأحرى مع الدولة العميقة. وكان اعتقاد اليمين الحاكم أن الفرصة سانحة بوجود أغلبية 64 مقعداً للانقضاض على الدولة العميقة وتغيير أركانها؛ بحيث تتحكم الأغلبية البرلمانية والحكومة في كل مفاصل الدولة وتلغي استقلالية السلطات. فكان الهجوم الأول على السلطة القضائية، فيما عرف بإصلاح النظام القضائي من قبل الحكومة، والانقلاب القضائي على لسان المعارضة. حيث أرادت الحكومة التحكم بالقضاء وتحديداً محكمة العدل العليا والمستشار القضائي للحكومة. وهو ما دفع التيارات السياسية من الوسط واليسار واليمين المعتدل لمواجهة هذا التغيير بحركة واسعة في الشارع كادت تسقط الحكومة وتؤدي لانتخابات مبكرة لولا هجوم السابع من أكتوبر الذي وحّد الشارع الإسرائيلي مجدداً ولكن لفترة وجيزة.
بعد السابع من أكتوبر، بدأ الهجوم على المؤسسة الأمنية ليس فقط لتحميلها المسؤولية عن الإخفاق العسكري الكبير والتهرب من تحملها، بل وكذلك لتحطيم صورة هذه المؤسسة المعنوية ودورها في الحكم. فعمد نتنياهو ووزراؤه الأكثر تطرفاً لانتقاد الجيش ممثلاً برئيس هيئة الأركان الذي تكال له الاتهامات بالتقصير ويُنتقد على أي موقف يصدر عنه. وذهبت الأمور إلى التهجم على قيادات الجيش جميعها كرئيس شعبة الاستخبارات "أمان"، وعلى جهاز الأمن العام "الشاباك" الذي أصبح رئيسه فاقداً لهيبته ومكانته. ولا يؤخذ برأيه ورأي المؤسسة العسكرية. وهذا ظهر بصورة جلية في التسريبات المتتالية عن الخلافات بين المؤسسة الأمنية من جهة وبين نتنياهو وبعض وزرائه. ولم يسلم من ذلك وزير الحرب يوآف غالانت الذي يتهم بأنه يعمل مع الأمن ضد رئيس الحكومة. وأيضاً في الخلاف حول موضوع صفقة التبادل التي يختلف الجيش مع نتنياهو حولها؛ حيث يؤيد الأول عقدها فوراً بينما يرفض نتنياهو ذلك.
الإهانة التي يتعرض لها الجيش والمنظومة الأمنية غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل، وهي تضاف للحرب على الجهاز القضائي. وفي هذا الإطار يريد اليمين المتطرف إلغاء استقلالية كل المؤسسات التي تعتبر مستقلة حسب النظام السياسي الإسرائيلي القائم منذ عقود طويلة، وتحويل الدولة بالكامل بكل مؤسساتها خاضعة لقرار الحكومة والأغلبية البرلمانية في الكنيست التي تكون حكماً تحت سيطرة الحكومة أو الائتلاف الحاكم. وهكذا تتحكم حكومة اليمين في كل سلطات الدولية التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتضعف دور الجيش والمؤسسة الأمنية في صنع القرار وتحوله لأداة سياسية تابعة وتخدم سياسة الزعيم أو الحكومة بصرف النظر عن خدمتها لمصالح الدولة.
هذا التطور الجديد، والذي يذهب نحو العمق إلى أساسات الدولة، يتحول إلى صراع حاد وجذري بين من ينادي بالحفاظ على إرث الدولة العميقة القائمة على الفصل بين السلطات واحترام استقلالية كل منها واحترام دور الجيش والمؤسسة الأمنية باعتبارها حامي الدولة والأكثر قدرة على التنبؤ بالأخطار المحدقة بها وكيفية التصدي لها بالتعاون مع السلطات الأخرى، وبين من يعتقد أنه آن الأوان لأن يحكم الشرقيون "السفارديم" الذين ينتمون غالباً لليمين ويعتبرون أنفسهم أنهم كانوا مظلومين تاريخياً بحكم اليهود "الأشكناز" والذين تعاملوا معهم مواطنين من الدرجة الثانية. ولا يهم الحاكمون الجدد كيف ستكون صورة الدولة في المجتمع الدولي، ولا حتى في أوساط اليهود في الخارج الذين يهتمون بأن تكون إسرائيل "يهودية وديمقراطية". وهذا الصراع قد يتحول في مرحلة ما إلى حرب أهلية إذا لم تتم السيطرة عليه. وما حصل في بيت ليد في الواقع يعكس الشرخ الكبير وغير القابل للجسر بين المستوطنين واليمين المتطرف وبين مجتمعات ومؤسسات ومنظومات أخرى يعتبرونها العدو الذي يتوجب الإطاحة به. وفي هذا السياق سيصبح مستقبل ومصير إسرائيل مرتبطاً بقدرتها على حل هذه المعضلة من جانب، ووضع حد للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي بات يحتل أولوية في اهتمامات الرأي العام من جانب آخر.