ستعقد يوم غد جولة جديدة من مفاوضات التهدئة، ومشكلة هذه المفاوضات لا تكمن فقط في الخلل الفادح في موازين القوى، بمعنى أنها غير متكافئة، وهناك طرف قوي ومعربد يفرض ما يريد، ويرفض ما يريد، وطرف ضعيف يفقد خياراته مرة بعد مرة.. المشكلة أنها ليست مفاوضات سياسية، فهي تتمحور فقط حول شروط وكيفية الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين مقابل هدنة مؤقتة.. حتى المطالب البسيطة التي كنا نطالب بها سابقا (مطار، وميناء، ومساحة صيد بحري..إلخ) لم تعد مدرجة بأي شكل. بل إن كل الأهداف التي أعلنها مطلقو «طوفان الأقصى» راحت في مهب الريح، وصارت مجرد أمانيّ عصية، حتى أنها غابت تماما عن الخطاب الإعلامي، ولم يتمكن أحد من طرحها على أجندة المفاوضات.
في كل نشرة أخبار يتصدّر خبر استشهاد العشرات من أبناء غزة، مع تذكير بعدّاد الشهداء الذي تجاوز الأربعين ألفا.. حتى هذا الخبر لم يعد يعني شيئا، لم يعد يعني أحدا.. لا يعني الشعوب، ولا يعني الحكومات، ولا المنظمات الإنسانية ولا الدولية، ولا الأفراد ولا الجماعات.. هذه حقيقة يجب بدايةً الاعتراف بها.. والإقرار بأن تأثير هذا الخبر لا يتجاوز الدقيقة، ولا يعقبه أي ردة فعل ذات معنى.. ويمكن القول أن العالم اعتاد المشهد.
إسرائيل ماضية في عدوانها، وبتصعيد مستمر، لم تعد تهتم بسمعتها، ولا بصورتها، بل إنها تسمح وتشجع الجنود على نشر صورهم وهم ينكلون بالمدنيين، ويسلبون بيوتهم، ويقترفون أفظع الجرائم ضد السكان والأسرى وضد القانون الدولي.. لم تعد تهتم بأية ردة فعل دولية، لا مجلس أمن، ولا تنديد الحكومات، ولا إدانة المنظمات الحقوقية، ولا شعارات التظاهرات، ولا هتافات المتظاهرين.
لم تستطع المقاومة الفلسطينية رغم بطولاتها وعملياتها النوعية صد العدوان، ولا إجباره على التراجع، ولا منعه من دخول منطقة، أو حتى تأخير دخوله، أو دفعه للخروج منها، عملياً هو المتحكم والمسيطر؛ يأمر بنزوح منطقة فتنصاع مجبرة على النزوح، يقصف، ويقتل بلا رحمة، مستعد أن يدمر حياً بأكمله بحجة وجود مطلوب! استطاع جيش الاحتلال التأقلم مع العمليات الفردية، وأن يتحمل حجم الخسائر التي تقع بين صفوفه من أفراد ومعدات، وقد تبين أنه قادر على خوض حرب طويلة الأمد، ومستعد لتحمل الخسائر، خاصة وأنها ليست بالقدر الذي يجعله يطالب بوقف إطلاق النار، أو أن تكون عامل ضغط إستراتيجي تجبره على الانسحاب، أو وقف العدوان.
كما اتضح أن كل ما قيل عن تفكك الكيان، وسقوط حكومة نتنياهو، وتفجر التناقضات الداخلية عبارة عن مبالغات وقراءات غير واقعية، بل العكس هو الصحيح، ونتنياهو في صعود مستمر، وبرنامجه ماضٍ بحسب ما خطط له منذ البداية، حتى أميركا لم تستطع ردعه ولا لجمه.
الأوضاع في القطاع في تدهور مستمر، وكل يوم جديد لا يحمل سوى المزيد من الدماء والمذابح، والمزيد من القهر والمعاناة والآلام، والخراب والتدمير.. وقد خرجت الأمور عن سيطرة حماس والمقاومة والشعب..
وهناك من يريد إبقاءنا في الوهم وانتظار السراب، مرة باسم مفاوضات التهدئة التي تتعمد إسرائيل إفشالها، ومرة في انتظار انهيار حكومة نتنياهو وكأنّ من سيخلفه سيكون حمامة سلام! ومرة بانتظار تغير الموقف الأميركي، أو بانتظار تغير الموقف الأوروبي، أو بانتظار مجلس الأمن، أو تصعيد محور المقاومة، وضربات الحوثيين، وتجاوز حزب الله لقواعد الاشتباك، أو تأثيرات التظاهرات الشعبية في مدن العالم، وتأثيرات النخب الأكاديمية والمثقفة التي بدأت تتفهم القضية الفلسطينية وتغير موقفها من إسرائيل.
في بداية العدوان عشنا على وهم أن الجيش الإسرائيلي لن يجرؤ على اجتياح غزة، ثم عشنا أشهراً على تهويمات الدويري والمناطق الرخوة، وعلى صور تفجيرات الدبابات، ثم عشنا ثلاثة أشهر كاملة ونحن نترقب اجتياح رفح، واقتنعنا أن أميركا لن تسمح لإسرائيل بفعله، بينما كان القصف والقتل والنزوح مستمراً ودون توقف.. واليوم نزجي الوقت في انتظار الانتقام الإيراني، الذي سيقتلع إسرائيل!
وما زالت «الجزيرة» تبيعنا الوهم والوعود، مرة بقرب انهيار إسرائيل، ومرة بتغير الموقف العالمي، ومرة بتمرير تصريحات لقادة إسرائيليين مفادها أن إسرائيل ما زالت بعيدة جدا عن تحقيق النصر! وبالطبع لن يجرؤ أحد من محلليلها على قول الحقيقة، بأن مثل هكذا تصريحات إنما هي غطاء وذريعة لاستمرار العدوان. ولن يجرؤ أحدهم على مصارحة الناس بأن قوات المقاومة مع كل تقديرنا لها باتت مكبلة، ومحاصرة من الجهات الخمس لدرجة عجزها عن التحرك، ولم يتبق أمام المقاومين سوى التحصن في الأنفاق والتي لم تعد ممكنه كالسابق بسبب تدمير معظمها، وما تبقى منها لم تعد صالحة للاختباء، وبسبب وجود طائرات الاستطلاع الصغيرة التي ترصد أي مسلح.
وإزاء هذا الواقع الصعب والكارثي، وفقدان الخيارات، لم يتبق لنا سوى خيار البحث عن مخرج سياسي، بهدف إنقاذ ما تبقى من غزة، وإنقاذ مليوني إنسان يصارعون الموت كل دقيقة. وهذه تحتاج منا أن نعلي من قيمة الإنسان، وأن نعتبر مهمة إنقاذ حياة الغزيين أهم من أي هدف آخر، وتتطلب منا أيضاً إدراك أن هذه المواجهة عبارة عن موجة كفاحية، ينبغي توفير الظروف لتجديدها واستمراريتها، بحيث لا تكون الضربة القاضية، وبالتالي المطلوب هو التوحد وترتيب البيت الداخلي، والتقدم للعالم بخطاب موحد.
والبديل استمرار التعلق بالشعارات وترديد الخطب الثأرية والجمل الثورية والعبارات الإنشائية المنمقة التي تتوعد بالنصر المؤزر.. المنفصلة عن الواقع.
الوقت من دم.. وهذه الحرب العدوانية ليست مباراة نتسلى بها، والموضوع أسمى وأهم من الخطابة والشعارات.