ركبتُ إلى جوار امرأة تحتضن وليدها وهي تجلس فوق كرتونة مهترئة تغطي القفص الخشبي لعربة يجرها الحصان، كانت تبكي وتقول: «ليتنا متنا مع أبيك وأخيك وأختك تحت ركام بيتنا، كيف سنعيش بعدهم»؟!
لأول مرة أشعر بعدم القدرة على السير مسافة طويلة وأنا في مخيم اللجوء، أحسست بالتعب بعد أن خطوت بضعة أمتار، كنت أسمع بوضوح لهاثي السريع، وجدت قطعة نايلون ممزقة، وضعتها تحت مؤخرتي، جلستُ على طرف الطريق، غطيت رأسي بالطاقية حتى لا يعرفني المارون، حاولت استعادة نشاطي من جديد، لكنني شعرتُ بالدوار، هربت من تفسير سبب ما أشعر به من إرهاق وتعب، تجنبتُ أن أرجعه إلى نقص الغذاء، واضطراري لتناول المعلبات لعدم وجود طعامي الصحي المعتاد، خشيت أن أنظر إلى أظافر يدي الجافة الصفراء، كنت أحس بأنني أحمل جسداً آخر فوق جسدي الهزيل، حاولت أن أقنع نفسي بتفسيرٍ آخر غير صحيح، أرجعتُ السبب إلى أنني ألبس ملابس شتاء ثقيلة جداً، تناسب شهر كانون الثاني، فأنا ألبس تحت القميص قميصاً صوفياً ثقيلاً وألبس فوق القميص الخارجي معطفاً ثقيلاً أضع فيه كل أوراقي، وألبس بنطالاً من الصوف تحت بنطالي القماشي، كنتُ أعلم أن تفسيري هروبٌ من الحقيقة.
كنت أنوي الذهاب إلى حيث مقر لجوء زوجتي، ومقر لجوء ابنتي، كلاهما في مكانين مختلفين، وأنا في مكان ثالث، خطوت بضع خطوات فأحسست بنشوة لم تدم طويلاً، فقدتُ بسرعة توازني، وقعت فوق الإسفلت، لم تفلح يدي التي وضعتها تحت أنفي من اتقاء الجرح في شفتي وأنفي، أحسستُ بيد شاب قوي ترفعني، حررتُ يدي من يد الشاب شكرته، أخرجت بقية منديل ورقي من جيبي وضعته على الجرح في أنفي وشفتي، قلتُ وأنا أحاول الابتسام للشاب: تعثرتْ قدمي بحجر، كذلك لم أكن صادقاً، كنت أحاول أن أجرب هذا الادعاء، عندما ألتقي مع عائلتي، فهم سيرون بوضوح الجرح في أنفي وشفتي ويطلبون مني أن أقدم لهم تفسيراً مقبولاً يُريحهم.
صرتُ أشتاق إلى موت سريع لا يزعج أحداً، أدركتُ أن انتظار الموت هو الأصعب والأقسى من الموت نفسه، فعندما يفقد الإنسان كل مقومات حياته في لحظات معدودة، ويشعر باستحالة استعادة السعادة، حينئذٍ يصبح الموت مريحاً العقل من التفكير في فقدان السعادة، خسرت بواعث سعادتي، بيتي ومكتبتي وفراش نومي، ووسادتي، وخزانة ملابسي، بخاصة سلسة مفاتيحي، مَن يعيد لي سلسلة مفاتيحي الجالبة لسعادتي، مفتاح بيتي وبيت ابني وابنتي، ومفتاح بوابة العمارة التي أسكنها ومفتاح المصعد، من يعيد لي كرسي مكتبي الذي صممته ليلائم حركات ذراعي وأصابعي التي تحرك قلمي وأنا أجلس على مكتبي؟
من يعيد لي صور شهاداتي، ووعاء إنضاج قهوتي على البخار؟ أشعر بشوق إلى صوري الخاصة بلونها الأبيض والأسود وأنا طالب في المرحلة الإعدادية، مَن يعيد إليَّ كل ذلك الشوق المفقود؟!
كنت قبل أن أُهجَّر في الخيمة عاشقاً للحياة، أما اليوم فقد صار عشقي للغياب هو المحبب، أمشي في شوارع خالية من الناس ولا أشعر بالرعب، صرتُ أبحث عن ميتة سريعة ودفن سريع بلا عناء، مثلما يحدث للشهداء الذين ظفروا بهذا الفوز دون الطقوس التقليدية ومراسم الدفن والعزاء، أن يوضع ما تبقى من جسدي فوق إحدى عربات النقل إلى المقبرة المكتظة بالأجساد، يدفنون رفاتي، بلا تأبين، ثم يغادر المشيعون في انتظار قبر جديد آخر.
أنا اليوم أتعمدُ السير أمام أحد الأبنية المهددة بالدمار، قليلون هم الذين يغامرون بالمرور بالقرب من المكان، شعرتُ وأنا أسير وحدي في المكان بهدوء منقطع النظير، بخاصة كلما اقتربت من المكان المهدد بالدمار.
هل كنت أبحث عن ميتة سريعة؟ أم أنني كنت أتحدى الموت؟ لا أدري بالضبط سوى أنني كنت أبحث عن الخلاص.
لماذا استعدت حكمة أفلاطون: «ليس الموتُ أسوأ الشرور، ولكن الأسوأ أن نتمناه ولا نلقاه»؟ هل يعود إلى أنني حفظت هذا القول في السابق، لأصنع منه مادة تصلح للتطبيق على شقاء الآخرين وآلامهم، وليس لأطبقه عليَّ أنا؟ أم لأنني كنت مؤمناً باستحالة أن أصل إلى هذه الحال؟ طويت هذا القول في ذاكرتي سنوات طويلة، إلى أن استخرجتْه المرأةُ التي ركبتُ إلى جوارها في العربة.
اكتشفت بالفعل صدق مقولة أفلاطون، أحسستُ بأنني توحدتُ مع أفلاطون، هيمنت سيرتُه على وسادة نومي في خيمتي، استوطن أفلاطون وسادتي المهترئة ولم أستطع نزعه منها، لماذا قال عميد الفلاسفة أفلاطون: ليس الموت هو الأسوأ، بل الأسوأ أن تتمناه ولا تلقاه؟ هل أحس بالقهر كما أُحسُّ في خيمة لجوئي، أم أنه خسر بواعث السعادة مثلي؟ فقد كان مؤمناً بفلسفته المثالية، أحسَّ أنها ستوصله للسعادة، وفجأة اكتشف أن فلسفته المثالية لا تصلح وسط عالم غير مثالي، كان سعيداً بتأسيس أكاديميته في أثينا، كان ينوي تأسيس (جمهورية أفلاطون)، جمهورية المثالية والأخلاق، انتشى عندما تخرج من أكاديميته تلميذُهُ، ديونيسيوس وصار حاكم سرقوسة اليونانية، ووصل إلى قمة السعادة عندما طلب التلميذُ من أستاذه أن يُساعده على حكم البلاد ليؤسس جمهورية السعادة والأمل، لم تدم سعادة أفلاطون طويلاً عندما اكتشف ديونيسيوس أن هناك فرقاً شاسعاً بين الحكم النظري الذي تعلمه من أفلاطون وبين حكم الجماهير العملي، فأقصى أستاذه، وامتنع عن الاستماع إلى نصائحه، ولم يكتفِ بذلك بل حاول بيعه في سوق الرقيق.
اكتشفتُ أن أفلاطون ابتدع مقولته السابقة بعد أن فقد سعادته، وأصبح مثلي بلا مأوى، أنا إذاً أشبه أفلاطون حين ظننتُ أن شغفي بمحفوظاتي ومفاتيحي هو السعادة الدائمة.
اكتشفت أن للسعادة عمراً قصيراً جداً، هذا ما أدركتْه المرأةُ التي ركبت إلى جواري في العربة، كانت هي أيضاً من أنصار أفلاطون، بكتْ لأنها لم تحصل بعد على سعادة الموت، فهي لم تذرف الدمع خوفاً من الموت، إذا، لم تكن رغبتها بالموت تشاؤماً وإحباطاً، بل هي أقل ألماً من انتظار الموت في خيمة اللجوء!
دول أوروبية تعلق طلبات اللجوء المقدمة من السوريين
10 ديسمبر 2024