فيما يبدو مسرح الحرب هادئاً نوعاً ما، يجري أكثر من شيءٍ خلف الكواليس، لا يعرف كُنّه أسراره أحد منا، فلعبة الأمم لسنا أكثر من أحجار على رقعة شطرنج تتمدد عليها مصالح دولها شرقاً وغرباً.
وفيما يتعلق بمشهديتنا الفلسطينية، هناك اليوم أكثر من لاعب أساس سيحدد طبيعة اليوم التالي، ولكن لا يبدو أننا جوهر الفاعلين فيه، والعرب الذين أظهروا صمتاً كصمت القبور، لن يكونوا هم الآخرون أكثر من "خيال مآته"، بأمل أن يمنحهم الأمريكان والإسرائيليون حضوراً شرفياً في مشهد ذلك (اليوم التالي).
لن تعود القضية الفلسطينية إلى سابق عهدها، فربما تتوسع مهمات التفاعل معها على المستوى العالمي، وخاصة في المحافل الدولية والمكانة الثقافية بين الشعوب والأمم فيما يخص الشعور بالمظلومية التي عليها حالة الشعب الفلسطيني، ولكن قطاع غزة -الجغرافيا والسكان- لن يعودا إلى سابق عهدهما، وستكون بصمة هذه الحرب وجرحها من العمق الذي يحمل وجعاً مزمناً وأثراً لا يغيب.
كنت قبل هذه الحرب العدوانية الظالمة أحمل حلماً جميلاً بالعودةِ إلى أرض الآباء والأجداد، ورؤية ثرى يافا وحيفا وعكا أنَّ تلامس جبهتي بساط المسجد الأقصى، ولكنَّ العمر الذي بلغته -وإن كان ليس عتياً بعد- لا يمنحني الوقت الذي تتطلبه مشاهدة الأحلام، فالحلم هو عادة جنين الواقع، والواقع اليوم هو كارثيٌ بامتياز.
ما أملكه اليوم في زمني هذا، هو قلمٌ وذكرياتٌ وكثيرٌ من مخزون الوجع والدموع، قد تُسعفني في الرثاء وكتابة صفحات العزاء الطويلة.
كم هي السنوات التي بشّرنا بها أنَّ هناكَ جيلاً سينهض من صميم اليأس جبارٌ عنيد، ويكون على يديه الخلاص من الاحتلال، وقد كان لهذا الجيل في نفوسنا ما أحيا فينا الأمل وبعث الرجاء، وكان في مشهدية نضاله تتراءى فلسطين بكامل زيها الوطني من البحر إلى النهر.
وبناءً على هذه المشهدية، تحركت آمال الأمة، وتعلَقت قلوب الجميع بحلم الكرامة الفلسطينية.
كانت مشهدية الإعداد في سياق قوة الاستطاعة قد بلغت درجة متقدمة في فهم رسالة "رأس النفيضة"، ولكنَّ المهمة التي كانت بانتظار الإنجاز هي دولة التمكين؛ أي دولة الإسناد والنصرة في الجوار العربي المنوط بها توفير العمق والحماية والمدد لطلائع النخبة المقاتلة المعقود على نواصيها وتقدمها حصول إرهاصات الفتح والنصر المبين.
وعليه؛ فإن "معركة الحسم" في الصراع مع دولة الاحتلال بعيداً عن هذا الفهم لدولة التمكين (المتصالحة سياسياً وعروبياً) هو عملية متسرعة، قد لا تنجح في أن تأتي أُكلها، وتحقيق الأحلام التي عشنا لأجلها نقدم التضحيات، ونلتحف أكثر من سبعة عقود من قسوة التهجير والصبر الجميل.
استثمرت قيادة حماس في إعداد (رأس النفيضة) أو الطليعة المقاتلة التي ستتقدم حشود الأمة، إلا أنها نسيت لخطأ في تقدير الحسابات وقراءة صفحات تاريخ الصراع ومعادلة التحالفات القائمة، أن قراءة "هِمَّة الأمة" واهتماماتها الفكرية واستعداداتها القتالية لا يمكن قياسها فقط بما تتراءى عليه الخيل المتصدرة لطليعة الجيش من جلبة وصهيل.
قد تكون مآلات الكارثة في مشهدية النكبة الثانية الكبرى لم تتضح بشكلها الكامل، وإن كان ما ظهر منها في حسابات الخسائر من حيث الشهداء والجرحى الذي تجاوزت أعدادهم ال 150 ألفاً بين شهيد وجريح، إضافة إلى ما حل بالقطاع من دمارٍ شامل تجاوزت نسبته 80% من مساكن المواطنين من بيت حانون شمالاً إلى رفح جنوباً.
لقد تعمَّدت إسرائيل ألا تُبقي مرفقاً حياتياً أو أي من مقومات الوجود يُغري فلسطينياً بالاستمرار في البقاء، وألا يتركوا مواطناً في قطاع غزة يُثقل كاهله أمراً غير التفكير في الهجرة أو الاغتراب.
اليوم التالي إسرائيلياً؛ هو قطاع غزة خالي من السلاح ومفرَّغ من معظم ساكنيه..
اليوم التالي أمريكياً؛ يعني قطاع غزة بإدارة دولية وحضور عربي فلسطيني متساوق أمنياً مع إسرائيل..
اليوم التالي فلسطينياً؛ هو سلطةٌ تشبه ما هو قائم في الضفة الغربية، أيدي عاملة وتنسيق أمني وخفض لمنسوب الطموحات والمطالب الوطنية، وتحجيمٍ لما تبقى من إمكانيات قتالية لدى حماس بكسر شوكتها وعُصبتها، ومحاولة استيعابها ضمن النظام السياسي القائم هناك..
قد تكون هذه المشهديات هي شطحات قلم، ولكنها رأي مصاحب لواقع الكارثة التي حلت بالقطاع وأهله على شكل نكبة ثانية كبرى، ولتجربةٍ من الخذلان العربي والإحباط من عجز المجتمع الدولي في ظل عالمٍ غربي متواطئٍ مع إسرائيل، ونجح -للأسف- في تطويع أغلب الأنظمة العربية للتطبيع معها، والتسليم بـ"قدرية" حضورها في خريطة الشرق الأوسط، وربما ترسيمها بعد هذه الحرب من قبل هذه الأنظمة كحليف وحائطِ صدٍّ للقوى والأذرع الشيعية، التي تُشكل إيران مركزها في الحكم والسيطرة، ويتم تنصيبها كفزاعةٍ مصطنعة لتهديد بعض دول الخليج.
ورغم أنَّ إيران قد نجحت في إصلاح علاقاتها مع معظم الدول الخليجية، إلا أن إسرائيل ومعها أمريكا ستظل تعزف على وتر الأصولية الإسلامية، وما تمثله من خطر التطرف والإرهاب الإيراني على أمن واستقرار هذه الدول.
باختصار.. كانت فلسطين هي قضية الأمة المركزية، إلا أنَّ اضطرابات مؤشرات البوصلة في السياقين الديني والسياسي هي وراء الخلل الذي أصاب كلَّ أوجه نضالنا، وأعادنا للتخبط على قارعة الطريق بلا هوية ولا وطن!!
لقد تعمَّدت إسرائيل ألا تُبقي مرفقاً حياتياً أو أي من مقومات الوجود يُغري فلسطينياً بالاستمرار في البقاء، وألا يتركوا مواطناً في قطاع غزة يُثقل كاهله أمراً غير التفكير في الهجرة أو الاغتراب.