لقد أصبحت سياسة الاغتيالات الإسرائيلية التكتيكية، وبهذه الوتيرة المتسارعة غاية في حد ذاتها، ومسألة موجهة للاستهلاك الداخلي، وتأتي في سياق البحث عن إنجازات ولو شكلية، تحتاجها حكومة: نتنياهو-بن غفير- سموتريتش المتطرفة في بحثها عن جوانب استعراضية، تجعلها تتحدث عن انتصار ما يحدث على الأرض، ضاربة سيادة الدول الأخرى والقوانين والأعراف الدولية بعرض الحائط، بدعم أميركي وصمت غربي مريب. سياسة لا تقدم أية فائدة، ولا تخدم أي غرض سياسي، بل تؤدي إلى زيادة العنف وتعقيد الأمور، ووقف المفاوضات المتعثرة أصلاً. وهذا هو المقصود عند نتنياهو، علاوة على أمل دفع الأمور نحو "حرب إقليمية" تخوض غمارها الولايات المتحدة نيابة ودفاعاً عن اسرائيل.
اغتيال إسماعيل هنية لم يكن الأول في سلسلة الاغتيالات التي قامت وتقوم بها إسرائيل، وبالطبع، لن يكون الأخير، وقد لجأت إسرائيل إلى هذا الأسلوب مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة تتوهم بدافع غرورها وجبروتها وصلفها أنه يمكنها كسر إرادة المقاومة بواسطة هذا النهج؛ لكن المقاومة سرعان ما دفعت بقادة جدد لا يقلون عن سابقيهم ذكاء ومهارة وتنظيما وبأساً.
هذه السلسلة من الاغتيالات التي يبدو أن دولة الاحتلال المتغطرسة ورأيها العام المخدوع يصدقانها بسهولة ويؤمنان بنجاعتها، لأسباب عديدة، ليس أقلها انفصالهما عن الواقع؛ لذا، فإننا لا نرى أي طائل ومعنى من محاولة تصحيح هذا الفهم المغلوط للكيان الصهيوني المتعصب بسبب أيديولوجيته الصهيونية المنحرفة المنتجة للأوهام؛ خاصة بعد أن ثبت أن لا قتل القادة يمكن أن يقضي على "الفكرة"، ولا قتل الأطفال يمكن أن يخلصهم من عدو مستقبلي مفترض!
وفي الوقت الذي مثلت فيه سياسة الاغتيالات الإسرائيلية - في بعض الحالات النادرة جداً- نجاحاً استراتيجياً خارجاً عن المألوف تشمل قدرات استخباراتية وتنفيذية، وترمم نسبياً سياسة الردع المتهالكة خاصتهم، وأدت أحيانا في حالات معينة إلى تفكيك تنظيمات فلسطينية صغيرة مثل: "منظمة أيلول الأسود"، إلا أن هذه "السياسة" لم تنجح تاريخياً في تفكيك جماعات لها حواضن اجتماعية وشعبية وجذور عميقة تتيح على الدوام ضم أعضاء جدد، وتقدم أصحاب الخبرة والكفاءات والتاريخ النضالي بشكل سريع إلى الصف الأول لتعويض هذا التغييب والفقدان، كما هو الحال لدى حركتي فتح وحماس في فلسطين أو حزب الله في لبنان. وفي هذا السياق، يخلص رونين بيرغمان الصحفي الإسرائيلي في كتابه الموسوعي: (إنهض واقتل أولاً: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية) الصادر في العام 2018 إلى أن سياسة الاغتيالات نجحت آنيا في إزالة تهديدات مباشرة محددة لكنها "فشلت في توليد حل طويل الأمد لمعضلة الأمن الإسرائيلي، ولم تكن يوما بديلاً عمليًا للمفاوضات والتسوية الدبلوماسية".
بل أن التجارب أثبتت انه كلما أمعنت إسرائيل في هذه السياسة قصيرة النظر أكثر، كلما كان الخط البياني للمقاومة إلى صعود، كيف لا، وكل فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية وغيرهما تستند إلى جبل من الثبات على المبادئ والإرث الأيديولوجي والوجداني الكبير والقدر الهائل من المظلومية، الأمر الذي خلق الاستعداد للتضحية والجلد والثبات والمثابرة والقدرة على التحمل. والذي لا يفهمه أعداء الأمة. إن اغتيال الأبطال والقادة هو مثل تفجير قنبلة من الديناميت، سيزيد من تسعُّر نار الثورة بشكل تصاعدي في وجدان "الجيل الشاهد" أكثر من "جيل الاستشهاد" الذي يروي أرض النضال بدمائه، ما يجعل وطن المقاومة أرضاً خصبة لنمو قادة جدد، فكل عملية اغتيال ما هي إلا عملية زرع لبذرة جديدة، تنبت وتتحول إلى مئات القادة، فالشهداء كانوا "مشاريع شهادة" وهم أحياء، وهم الآن- بقوة الأنموذج الذي يرسخّونه- أصبحوا أحياء رغم أنهم شهداء!
وعليه، ستظل عدالة القضية، ووجود الحواضن الفكرية والشعبية، عوامل أساسية في تحويل الشخصيات المغتالة إلى رموز للنضال والمقاومة، والسير على نهجهم، حتى هزيمة هذا المشروع الإستيطاني/ الاستعماري، وإعادة الحقوق إلى أهلها الشرعيين، طال الزمن أم قصر.
سياسة الاغتيالات لم تنجح تاريخياً في تفكيك جماعات لها حواضن اجتماعية وشعبية وجذور عميقة تتيح على الدوام ضم أعضاء جدد، وتقدم أصحاب الخبرة والكفاءات والتاريخ النضالي بشكل سريع إلى الصف الأول لتعويض هذا التغييب والفقدان.