انهزم العقل في المنطقة العربية مبكراً، أما كيف ولماذا، فتلك قصة طويلة يرويها التاريخ ويجسدها هذا المستوى من النتاج الحضاري والمعرفي والعلمي وتجلياته السياسية الفوضوية وحالتها البدائية في ممارستها للسياسة، وما أنتجته من حواضن اجتماعية وأدوات وروافع سطحية من مريدين ومهللين امتهنت التبرير وظلت تدور كساقية لم تنتج سوى الفقر والدم.
الحالة الفلسطينية لم تكن استثناء، بل ونظراً لفرادة التجربة وتشوُّهها بفعل الاحتلال وحالة التشتت واللجوء وتقدم السلاح على باقي وسائل السياسة كضرورة وطنية كانت تغرق أكثر من غيرها في استبعاد العقل قال صديقي الذي عمل في مركز دراسات في بيروت: «كان يأتي المسلح يتعامل معنا باستخفاف لأننا لسنا مقاتلين، فماذا يعني العقل في حضرة السلاح؟
فشلنا في إحداث التوازن استكمالاً لتراثنا وتاريخنا في احتقار وهزيمة العقل.
في تجربتنا، تنحى العقل جانباً مفسحاً الطريق للصوت العالي والشعار العالي والسلاح العالي بشكل عشوائي دون ربطه بحركة السياسة، لنجد أنفسنا بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن نعيد قراءة الدرس من بدايته خيمة وهجرة وطابور الطعام وطابور الحمام وطابور العلاج وطوابير طويلة من النازحين وفشلاً فادحاً في العمل السياسي حد الغياب.
ما الذي فعلناه بأنفسنا؟ لم تكن تجربتنا في الإدارة سوى اجترار تجربة بائسة للنظم العربية حيث الولاء وليس الكفاءة وإعلاء شأن الأمن على التفكير وازدراء الحياة المدنية والمواطن والخدمات، وبعد أكثر من سبعة عقود ونصف العقد نجد أنفسنا نعيد التجربة من جديد دون التمعن بتفاصيلها ودون إعمال العقل الذي كان يمكنه أن يختصر المعاناة ويختصر طريق الهدف بدل الفوضى التي استوطنت الحالة الفلسطينية.
هل يمكن أن نهزم إسرائيل عسكرياً؟ سؤال على العقل الفلسطيني أن يقدم إجابته. إذا كان ممكنا فليكن السلاح وسيلتنا الوحيدة وإذا كان غير ممكن فعلينا البحث عن أدوات مساعدة للسلاح.
ولمن لا يقرأ فإسرائيل هي ابنة هذا العالم ومصانع أسلحته التي تتداعى كلها لحظة الشعور بالخطر، وهذا ما يجعل دولة كبيرة بحجم إيران تحسب وتجمع وتطرح قبل أي هجوم على إسرائيل رغم ضربة كبيرة تتعرض لها أو ضربات سابقة.
لم تقم إسرائيل إلا بقرار دولي وبقوة دولية وحماية دولية وهذا كان واضحا للمتخصصين في الدراسات الإسرائيلية فقد انكتب ما يكفي من كتب كانت كفيلة بصياغة برنامج وطني تكتيكي واستراتيجي أكثر كفاءة في منازلتها بكثير من العقل وقليل من السلاح لذا لم يكن من المصادفة في سبعينيات القرن الماضي أن تستهدف المثقفين والمفكرين أما بعد أن حكم الفلسطيني نفسه فقد تكفل الحكم بنفسه بإزاحتهم وتحقيرهم وظل الأمن والسلاح هو من يقود الحالة لنصل إلى هذا الخراب.
بداية النجاح كانت بقدرة الحركة الصهيونية على تحويل قضية اليهود في العالم إلى ما عرف بالمسألة اليهودية، فهل نجحنا في جعل القضية الفلسطينية «المسألة الفلسطينية» على أجندة العالم؟ توفرت للفلسطينيين فرصة حكم أنفسهم كان العالم يراقب بما يملك من أجهزة رصد فماذا أنتجت التجربة؟ هل أقنعنا العالم الرسمي والشعبي بجدارتنا بدولة؟.
علينا أن نعترف بالفشل الذريع في إقناع العالم، وأن تجربتنا لم تنتج سوى الحكم القبلي البدائي المبني على الولاء للحزب القبيلة وليس الكفاءة، وأن تجربتنا عسكرية وأمنية محدودة الكفاءة، تغول الأمن على المواطن وعلى السياسة، تجربة بلا شفافية ولا عدالة اجتماعية، مجموعة متحاربين على السلطة لم نستطع التعايش مع بعضنا ومع أول قطعة سلاح تسلمناها استعملناها ضد بعضنا وانقسمنا وأقمنا حكمين متصارعين متباعدين وأوقفنا الانتخابات وتم الاعتداء على حقوق المواطن. هذه صورتنا.
تسلمنا فرصة الحكم ونصارع دولة هي امتداد للقوة الدولية ماذا لو وضعنا برنامجا مدنيا يليق بشعب متحضر تحت الاحتلال؟ كان يمكن ذلك، كان يمكن إقناع العالم بأننا مختلفون وجديرون بالاستقلال وسأقول كيف.
لدينا من الطاقات البشرية ما يمكن أن يفيض عن الحاجة موزعة على امتداد الكرة الأرضية. لنأخذ الصحة مثالاً، ماذا لو بنينا أحدث المستشفيات في العالم وأحدث الأجهزة الطبية وفرضنا خدمة وطنية على جميع أطبائنا في أرقى المستشفيات في العالم لمدة أسبوعين في العام في كل التخصصات ومنهم من أطبائنا من الداخل. بالمناسبة في بريطانيا اكتشفت أن أفضل طبيب سرطان كانت سورية قد طلبته بالاسم لمتابعة حالة عقيلة الرئيس الأسد وهو الدكتور إسماعيل أبو عمرو من غزة ويدير المستشفى الملكي للسرطان «ومثله كثيرون كانوا سيجعلون بلادنا وجهة علاجية لكل العرب ومدعاة للإعجاب والدهشة».
ما الذي كان ينقصنا لننقل أرقى المناهج الدراسية في كل التخصصات في أكبر الجامعات، كما عمل الملك فؤاد في عشرينيات القرن الماضي عندما زار جامعة السوربون وأمر بنقل المنهج الدراسي لكلية القانون كما هو لتصبح مصر وقضاة مصر لمدة قرن الأفضل في الوطن العربي ونتذكر كيف كانوا يقفون لمبارك في محاولاته لتجاوز القانون، ماذا لو نقلنا منهج المدرسة الأميركية لطلابنا وقررنا التدريس باللغتين العربية والإنجليزية وفرضنا على الأساتذة اللغة الإنجليزية بدل الدروس الخصوصية لمدرسين بلا كفاءة ومنهج لا يوصل لشيء. ماذا لو أقمنا جامعات ومناهج تضاهي في تعليمها الأكبر في العالم؟.
ماذا لو كانت انتخاباتنا في موعدها وفي كل مرة ندعو العالم لحضور كيف تسلم السلطة الحكم للمعارضة وكيف تعمل المعارضة بكامل حريتها؟ ماذا سيقول العالم؟ ببساطة وأمام الصعود الديني في إسرائيل وانزياحها نحو التخلف؟ سيقول هل هؤلاء المتخلفون يحكمون هؤلاء المتطورين الحضاريين؟ كان ذلك ممكناً لكن كان لدينا إصرار على الفشل واستدعاء كل ما هو متخلف في التجربة وتنحية العقل وإعلاء الأمن والسلاح .. هكذا تنهار المجتمعات.