يغيب عن النقاش حول مستقبل الوحدة الوطنية حاجة الناس الأساسية المتمثلة في وجود إدارة سليمة لحياتهم تكفل العدالة في توزيع المعونات والمساعدات، وتخفف عنهم أعباء الحرب الدائرة.
المطلب الأساس للناس يتمثل في الأساس في إنهاء الحرب وعودتهم إلى بيوتهم حتى لو كانت مهدمة ودفن شهدائهم وتسوية آلام الشهور العشرة الماضية.
ولكن ومع تعنت دولة الاحتلال وإمعانها في تصعيد وتيرة الحرب فإن حياة الناس البائسة بكل ما تشير إليه من مآسٍ وعذابات يجب أن تستمر، ويجب أن يتوقف الظلم في توزيع المساعدات والاعتداءات التي لا تتوقف على قوافل الطعام وعلى مستودعات تخزين المساعدات والخيام وغير ذلك.
الناس بحاجة لأن يشعروا على الأقل بأن حياتهم رغم كل الجراح هناك من يفكر فيها.
الانطباع العام لدى النازحين أن أحداً لا يهمه كل ذلك وأن تجارة المساعدات والسطو على قوافلها واحتكار البعض للخيرات على حساب حرمان الأغلبية أمر لا يعني أحداً.
وهذا أمر مؤسف ومحزن لأنه يعني فقدان الناس الأمل وفقدانهم الثقة المطلوبة في مرحلة ما بعد الحرب، ثقة لم تعد موجودة لأن أحداً أيضاً لم يسع إليها ولم يعمل من أجلها.
ثمة انطباع سائد بأن الأمور متروكة على حالها والتي عنت احتكام الوضع لقانون الغاب وتدهور الوضع الأمني الداخلي وتهتك النسيج الاجتماعي وغياب الأمل في انتظار الغد، لأن الغد لا يعني إلا المزيد من الحرب وهذا أمر خارج إرادة النازحين ولكنه يعني المزيد من الفوضى الداخلية والمزيد من انعدام العدالة الاجتماعية في توزيع المساعدات والكوبونات، ويعني أن البعض قد ينام بعد أقل من شهر إذ جاء المطر دون خيمة فيما سيجرف المطر خيام البعض التي ذابت طوال سنة من التنقل والتعرض لعوامل الطبيعة من البرد والحر والشمس الملتهبة والريح الشديدة، ولأن هذا سيعني أن عاماً سيمر على الحرب ولم نجلس كفلسطينيين فريقاً واحداً نفكر في الناس وكيف يمكن لنا أن نخفف مما يتعرضون له ويعانون منه جراء سياسات وبطش جيش الاحتلال بهم وبالمكان الذي يعيشون فيه، ولأن كل هذا يعني ألا أحد يفكر بالنازحين.
ثمة ما يمكن تحقيقه في أسوأ الظروف وثمة ما هو ضروري وممكن وضروري ويمكن تأجيله وثمة ما هو سهل وبسيط يخدم فقط في تخفيف آلام المرحلة لكنه على المدى البعيد سيساهم في التخفيف من أزمات الانقسام الكبرى.
ما أقترحه هو وجود «نماذج» لحل الصراع الداخلي ترتكز على مصالح الناس الآنية على طريق تحويل هذه النماذج لمنطلقات لحل الصراع الداخلي برمته.
هناك ما يمكن إنجازه بسرعة ويكون تأثيره كبيراً الآن ولاحقاً. والأساس ألا يتم رهن كل ذلك بمستقبل الحرب التي لا نعرفها ولا يمكن لنا التحكم بمستقبلها.
وبالنظر إلى ما يجري من مفاوضات فإن المؤكد أن فرص التوصل لاتفاق قد تبدو قريبة جداً في لحظة ثم في اللحظة التي تليها قد تبدو بعيدة وأبعد من الوهم.
فالمفاوضات حول التهدئة صارت مثل عملية مستمرة لذاتها ومن أجل ذاتها.
مطالب دولة الاحتلال تكاد تكون استسلاماً كاملاً بالنسبة لحركة حماس مع إنجاز في قضية إطلاق سراح الأسرى فيما الحرب تستمر والمفاوضات تستمر وفي كل يوم يزيد الضغط الميداني في غزة سوءا ويتم تهجير المزيد من المواطنين وتضيق المنطقة التي تسمى زوراً «الأمنة»، ويزيد وضع الناس صعوبة خاصة مع عدم توفر الأسس الدنيا للحياة من مسكن ومأكل ومشرب.
وعليه فإن أحداً لا يعرف إلى أين يمكن أن تقود نتائج الحرب ولكن النتيجة الوحيدة التي نعرفها ونعيشها أن أوضاع الناس لن تتحسن خلال فترة قصيرة حتى لو عاد الجميع إلى بقايا منازلهم وركام بيوتهم؛ لأنهم في نهاية المطاف سينصبون خياماً قرب الركام وسيبدؤون رحلة البحث عن الحياة التي افتقدوا كل أسسها.
ربما يحدث ذلك ولكن الوضع لن يتحسن كثيراً وربما تنتهي الحرب ولكن الوضع المأساوي لن يزول بسرعة، وربما يكون كل ذلك جزءاً من تفاصيل المفاوضات الجارية لكنه بالطبع لن يبني بيتاً أو بناية من خمسة طوابق بات سكانها المائة بلا مأوى.
أشياء كثيرة قد تحدث لكنها لن تعني تحسن الحال أو تطور الواقع وانزياحه نحو الأحسن.
إن الطريق إلى التهدئة تبدو أحجية أو متاهة لا يمكن لأحد أن يعرف تفاصيلها دون أن يملك سحراً يتوقع له المفاجآت التي قد تعترض طريقها، ومع ذلك ليس للمرء إلا أن يتمنى أن يتم التوصل لاتفاق حتى يرتاح الناس ويعودوا إلى بيوتهم حتى لو كانت مدمرة وإلى أحيائهم حتى لو أزالتها الجرافات.
وبشكل عام هذا قد يحدث حال تم التوصل لاتفاق تهدئة أو كجزء من استراتيجية الحرب الإسرائيلية لكنها لن تعني نهاية الواقع المأساوي الذي يعيشه الناس والذي أقترح أن يتركز النقاش الوطني على سبل معالجته ومساعدة الناس في تجاوزه.
هذا هو الشيء الذي يسمى الحاجة الوطنية. إنها الحاجة التي ندرك فيها ما يهم الناس لا ما يهم التنظيمات.
إن المحزن أن الحوار الوطني وكل جلسات المصالحة تدور في نفس الفلك منذ الجلسات الأولى التي تمت في القاهرة بعد نهاية حرب كانون الأول 2008 وكانون الثاني 2009، لم يتغير شيء. حتى الحرب المدمرة التي تعصف بشعبنا في غزة لم تنعكس على طبيعة الحوارات التي جرت خلالها، صحيح أننا بحاجة لإنهاء الانقسام بشكل نهائي وبحاجة لحكومة مركزية وبحاجة لوجود الكل الفلسطيني داخل منظمة التحرير من أجل تمكين التمثيل الفلسطيني وتقوية مطالبنا السياسية وإنهاء حالة الشرذمة في الموقف السياسي، ولكننا أيضاً بحاجة لأن نفكر كيف يأكل الناس في الحرب وكيف ينامون وكيف يشربون وأيضاً كيف يتحركون.
قد نكون هنا بحاجة لاتفاق وطني مؤقت وسريع يلامس حياة الناس خاصة حول المساعدات، ومعالجة حياتهم في حال وضعت الحرب أوزارها أو في حال استمرت في فصلي الخريف والشتاء وكذلك تشغيل معبر رفح لتمكين الجرحى من تلقي العلاج على الأقل.