شهدت الأسابيع الأخيرة بعد جريمتي اغتيال القائد الوطني الكبير إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في طهران، وفؤاد شكر القائد العسكري الأهم في حزب الله في بيروت حالة ترقب من خطر الانزلاق إلى حرب إقليمية. وقد حشدت واشنطن أساطيلها وقواتها الحربية، كما جندت نفوذها الدبلوماسي وعلاقاتها الإقليمية والدولية، في مسعى منها لمنع اندلاع مثل هذه الحرب.
كان واضحاً أن نتنياهو الذي دبّر عمليتي الاغتيال هو الوحيد الذي يريد هذه الحرب، كي يغطي على فشله العسكري في حرب الإبادة التي يرتكب فظائعها ضد قطاع غزة. وقد نجحت العصا والجزرة الأمريكية في تبريد ردة الفعل الإيرانية، دون أن تنجح في إلغائها بصورة كاملة، الأمر ذاته مع حزب الله، فكلاهما أي إيران وحزب الله كما يبدو أظهرا استعدادًا لعدم الرد إذا تمكنت واشنطن وبقية الوسطاء من التوصل إلى اتفاق صفقة مقبولة للمقاومة الفلسطينية تضمن الوقف الكامل لإطلاق النار، والانسحاب الشامل من القطاع، والتوصل لصفقة تبادل جدية للأسرى تمهيداً لرفع الحصار عن القطاع، والسماح بدخول المواد الإغاثية والمعدات الطبية، ومواد الإعمار اللازمة لإعادة بناء ما دمره الاحتلال .
إلّا أن واشنطن، التي لم تكن فعلاً تريد التورط في حرب إقليمية يجرها اليها نتنياهو، ربما اعتقدت أن إيران وحلفائها لن يبادروا لأي رد في سياق سعي طهران للانفتاح على الغرب ودول الإقليم، وربما يُفسر ذلك استمرار الدعم والتماهي الأمريكي مع إسرائيل لتمكينها من الاستفراد بشعبنا ومقاومته في قطاع غزة، حيث تراجعت واشنطن عن مضمون مبادرة بايدن وقرار مجلس الأمن بهذا الخصوص، وتبنت عملياً وفق تصريحات بلينكن موقف نتنياهو بشكل كامل، سيما المتصلة بالوقف الشامل لإطلاق النار، مبقيةً زمام المبادرة العسكري في يد نتنياهو، وكذلك التراجع عن مبدأ الانسحاب الشامل من "محوري فيلادلفيا الحدودي بين مصر والقطاع ونيتساريم وسط القطاع"، والأخطر ربط تدفق المساعدات الإنسانية بقبول حماس لباقي عناصر الصفقة الإسرائيلية.
في هذه الأجواء التي اتسمت بمحاولة فرض حالة من الاستسلام على المقاومة، عاد الحرس الثوري يتحدث عن رد قريب، وأعلن حزب الله أن رده ليس مرتبطاً برد طهران، وصعد من هجماته خلال الأيام الماضية، ذلك في إشارة لاستعداده سواء للرد أو ترقب ماذا ستسفر عنه مباحثات اتفاق وقف إطلاق النار في القاهرة، والتي ظلت رهينة مطالب نتنياهو لاخضاع حماس، دون اكتراث حتى للموقف المصري فيما يتعلق بمحور فيلادلفيا.
من الواضح أن حماس التي استمرت محاولات الاستفراد بها، رفضت الخضوع لشروط تل أبيب المتبناة من واشنطن. وفي هذا السياق أدركت تل أبيب أن إمكانية رد حزب الله باتت مؤكدة، وسواء أنها قامت بضربة استباقية أم ردت على بداية انطلاق الرد الهجومي لحزب الله، فإن ما جرى من تصعيد نوعي محسوب فجر الأحد والذي أطلق عليه السيد حسن نصر الله "عملية يوم الأربعين"، تشكل بروڤة لما يمكن أن تكون عليه الحرب في الجبهة الشمالية إن انزلقت الأمور، بسبب خطأ ما في حسابات أي من الطرفين. صحيح أن موازين القوى بين قوات الاحتلال رغم ترهلها بعد عشرة شهور من الحرب، وبين قوات حزب الله تميل بشدة لصالح جيش الاحتلال من حيث تفوق نوعية السلاح والقدرة التدميرية والظهيرة الأمريكية والغربية لها. إلا أن ما يمتلكه الحزب من قوة عسكرية نوعية كفيل بتوريط إسرائيل في مواجهة مع مقاومة شديدة البأس والمراس، في الوقت الذي ما زالت فيه غير قادرة على حسم حربها العدوانية في قطاع غزة ميدانياً.
مرة أخرى يقفز سؤال ما الذي تريده واشنطن فعلياً؟ فمن لا يريد التورط في حرب إقليمية، ويدعي رغبته بوقف الحرب على قطاع غزة، كان عليه أن يستثمر حالة ما بعد جريمتي الاغتيال للتوصل إلى صفقة توقف هذه الحرب القذرة على القطاع، وأن يحول تصريحاته المعلنة إزاء الانسحاب الكامل، وإن كان على مراحل، والوقف الشامل لوقف إطلاق النار إلى مواقف ملزمة لنتنياهو، سيما أن أوساط صنع القرار في واشنطن، رغم التباين بين رموزها، تدرك نوايا نتنياهو الرامية لاستمرار الحرب لأسباب سياسية شخصية لا تتوافق مع مصالح واشنطن، ولا حتى مع مصالح تل أبيب وأمنها. كما أنها تدرك نوايا نتنياهو لجرها نحو حرب إقليمية لا تريدها، وهي تسير نحو انتخابات صعبة، بات وقف حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة أحد عناصر تجاوز الإدارة الديمقراطية خطر خسارتها بفعل المواقف الشعبية المتصاعدة، والتي تربط تصويتها للمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس بدورها العملي لوقف الحرب العدوانية المستمرة منذ ما يقارب أحد عشر شهراً ضد شعبنا الفلسطيني في القطاع، بالإضافة لما يجري من عدوان يومي في الضفة الغربية.
الأيام والأسابيع القادمة تضع جميع الأطراف على محك المسؤولية، سواء لجهة وقف إطلاق النار في غزة وإبرام صفقة عادلة، أم ابقاء احتمال الانزلاق لخطر حرب إقليمية، وإن كانت محدودة ماثلاً، وبما يحمله ذلك من تداعيات قد تتجاوز الإقليم برمته.
ومرة أخرى، وليست أخيرة، فإن اتفاقاً واقعياً لوقف إطلاق النار وفق مبادئ قرار مجلس الأمن هو في الأساس مصلحة وطنية فلسطينية. فاستمرار هذه الحرب يعني مزيداً من الضحايا الأبرياء، حتى لو كانت المقاومة ما زالت قادرة على المواجهة، كما أن أي انكسار لظهر المقاومة سيعني ابتلاع الضفة وتقويض سلطتها.
ذلك كله يفرض ضرورة مغادرة دائرة المناورات التي ما زالت تحكمها أحقاد تصفية الحسابات. فالطريق الوحيد الآمن لغزة هي الوحدة الوطنية، والارتقاء بالمسؤولية الوطنية لحجم المخاطر التي تهدد المصير الوطني بمختلف مكوناته، وليس أمام الجميع، وفي مقدمتهم الرئيس عباس، إن أرادوا اتفاقاً معقولاً لوقف إطلاق النار، وصون المصير الوطني، سوى إعلان الالتزام العملي باتفاق بكين، والإسراع في تشكيل حكومة توافق وطني كأداة سياسية ضرورية لمواجهة المخططات الاسرائيلية، ورافعة أمل لشعبنا بدفن مخططات فصل القطاع عن الكيانية الوطنية الموحدة مرة وإلى الأبد، وما يستدعيه ذلك استنهاض طاقات الشعب الفلسطيني برمته في معركة الصمود، واعادة البناء على طريق إنهاء الاحتلال، وانتزاع الحق في تقرير المصير والعودة، وتجسيد سيادة دولة فلسطين على كامل أرضنا المحتلة منذ الخامس من حزيران 1967.
الأيام والأسابيع القادمة تضع جميع الأطراف على محك المسؤولية، سواء لجهة وقف إطلاق النار في غزة وإبرام صفقة عادلة، أم ابقاء احتمال الانزلاق لخطر حرب إقليمية، وإن كانت محدودة ماثلاً، وبما يحمله ذلك من تداعيات قد تتجاوز الإقليم برمته.