لا تزال الجهود المبذولة لوقف الحرب على غزة تدور في حلقة مفرغة، والجهود الناجحة هي تلك المتعلقة بمنع اتساع الحرب في المنطقة كي تظل الاشتعالات خارج حدود فلسطين تحت السيطرة، وألا تؤدي إلى حرب إقليمية يجري التحذير منها، مع أن الجميع في المنطقة والعالم لا يريدها، بل ويتسابق على التنصل منها.
ما يحدث على جغرافية فلسطين كلها، وعناوينها الحالية غزة والضفة والقدس، هي حربٌ شاملةٌ لم تبدأ اليوم أو بالأمس القريب والبعيد، ولن تنتهي غداً مهما وعد الاحتلال نفسه بحسمها.
في حزيران 67، حققت إسرائيل اجتياحاً سهلاً لأراضٍ فلسطينية وعربية، بلغت عشرات أضعاف الأرض التي تشكلت دولة إسرائيل عليها، ومنذ ذلك "الانتصار" تولّدت داخل إسرائيل شعباً ومؤسسات وصنّاع قرار، عقدةٌ لم تنجح في التخلص منها، قوامها أنها الدولة المتفوقة القادرة على أن تفعل ما تشاء، دون رادٍ ولا رادع. ومنذ ذلك الحزيران الذي مرّت عليه سبع وخمسون سنة، وإسرائيل تخوض حرباً شاملة، ترتفع وتيرتها أو تنخفض، ولكنها لم تتوقف، وحلم إسرائيل الذي بدا مستحيلاً تماماً أن ترى الملايين الفلسطينية تعيش تحت سحابة من رايات بيضاء، أساسها التسليم بسطوة القوة على حساب الحق، أو القبول الفلسطيني بمجرد العيش تحت احتلال يحصي أنفاس شعبنا ويقيد حياته، وينهي أحلامه وأهمها الحرية والاستقلال.
وفق موازين القوى بين المتحاربين فإسرائيل تتمتع بتفوق في كل شيء، القوى العسكرية والإمكانيات الاقتصادية والعمق التحالفي، وأساسه الولايات المتحدة، وحلف الناتو المتحالف مع العجز الإقليمي والدولي، فماذا كانت النتيجة؟
لقد وقفت إسرائيل على سلاحها منذ اليوم الأول لتأسيسها وإلى ما لا نهاية، وصنّاع القرار فيها يواصلون وعدهم للإسرائيليين بأنهم سيظلون تحت السلاح وإلى ما لا نهاية... حروب لم تتوقف على غزة وحروب موازية على الضفة، وإنفاق بلا حدود، لتحويل القدس إلى عاصمة لإسرائيل هادئة وادعة عبرية المظهر والجوهر، يعيش فيها فلسطينيون ليس كوطن وإنما كمكان إيواء أمر واقع، ينتظرون إمّا الجنسية الإسرائيلية أو التهجير إلى أي مكان.
هذا هو الحلم الإسرائيلي، ودعونا ننظر للواقع كما هو... القدس لا تزال العاصمة الفلسطينية المحمية بناسها ومقدساتها، وإذا ما ذهبت لزيارة لها فلن ترى فيها غير الجيش وحرس الحدود والمستوطنين، ولكنك ترى بالمقابل أغلبية فلسطينية متفوقة داخل أسوارها التاريخية، ومئات ألوف الفلسطينيين خارج الأسوار يتزايدون ولا يتناقصون، وكذلك الأمر في غزة والضفة وباقي قطاعات الشعب الفلسطيني على أرض الوطن وفي الشتات القريب والبعيد.
جهود وقف الحرب على غزة تدور في حلقة مفرغة، وعمليات إخضاع الضفة لا تنتج سوى إصرار شعبي على المقاومة وأساسها التشبث بالوطن، ومنع الاحتلال من الاستمتاع برؤية الفلسطينيين يتزاحمون على الجسر الخشبي للمغادرة.
إن السلاح الإستراتيجي الذي يملكه الفلسطينيون ولا تملك إسرائيل القدرة على إنهائه، هو البقاء على أرض الوطن، وتحريم الهروب منه، مهما بلغت جرائم الاحتلال ومليشيات المستوطنين.
الجسور مفتوحة مع الشقيق الأردني، إلا أن الحركة عليها إلى فلسطين أقوى من الحركة من فلسطين.
بالأمس أعلنت إسرائيل فصلاً جديداً من فصول الحرب على ساحة الضفة الغربية، ودون انتظار نتائج ما ستفعل، فالحقائق المثبتة أكدت أنها لن تحصد غير ما حصدته على مدى سبع وخمسين سنة، وما حصدته فعلاً هو حرب يائسة ذات مسميات متعددة، تارة اسمها "الجرف الصامد" وتارة أخرى "الرصاص المصبوب" وتارة قبلها "سلامة الجليل"، ودائماً بعدها "جز العشب" و"حقل الأشواك" ولعق الصحون، تعلن أنها في الفصل الأخير من الحرب على الفلسطينيين، لتكتشف أنها لا تزال في الفصل الأول.
ميزة الذخر الإستراتيجي للفلسطينيين أنه يتكون من ملايين البشر الذين لا يرون وطناً لهم وحياة غير فلسطين، سواء كانوا يعيشون على أرضها أو في بلاد الله الواسعة، ولو سأل أصحاب مفاعل ديمونا النووي، وطائرات الـ F من كل السلالات والأرقام، والدبابات التي يصفونها بالقلاع الفولاذية... لو سألوا أنفسهم: ما الذي أنجزوه مع الفلسطينيين في كل حروبهم ضدهم؟ فسوف يصلون إلى نتيجة لا تحمل التأويل، مفادها استحالة إخضاعهم ورؤية رايات بيضاء فوق رؤوسهم.