في قلب قطاع غزة الممزق بالحرب والنزوح المتكرر، تتكشف طبقات أعمق من المعاناة حين تُسحب الحياة من تحت أقدام النساء اللاتي فقدن أطرافهن أو أصبن بإعاقات دائمة بفعل الغارات الإسرائيلية.
هؤلاء النساء اللواتي يُفترض أن تحيط بهن الرعاية الطبية والخصوصية والحماية، يجدن أنفسهن اليوم على كراسٍ مكسورة داخل خيام ضيقة لا تصلح للعيش أصلًا، فكيف بمن فقدت قدمًا أو يدًا أو تستيقظ كل ليلة على ألم الكوابيس قبل ألم الجسد؟ في المخيمات التي أصبحت المأوى وسط انعدام أدنى المقومات الأساسية، تصبح أبسط الحقوق حلمًا بعيدًا؛ دورة مياه ملائمة، قطعة صابون، سرير، أو حتى زاوية صغيرة تستطيع فيها امرأة مبتورة الساق أن تبكي دون أن يراها أحد.
وسط هذا المشهد، تظهر قصص ألفت جمعة وشيرين أبو الكاس كمرآة لوجع أكبر من أن يُحتوى، ولواقع يضغط بثقله على النساء ذوات الإعاقة، اللواتي يدفعن ثمن الحرب مضاعفًا: فقدانًا وبترًا ونزوحًا وغيابًا تامًا لأي حد أدنى من مقومات الحياة الإنسانية.
ألفت جمعة، ثلاثينية من منطقة الصفطاوي شمال غرب غزة، لم تتخيل أن تتحول إلى الناجية الوحيدة من أسرتها بعد أن استهدف القصف منزلهم المكوّن من ثلاثة طوابق في نوفمبر 2024 دون سابق إنذار. كان الليل ثقيلاً، مكتظًا بصوت القصف الذي لم يهدأ في شمال القطاع قبل أن تجد نفسها فجأة تحت الأنقاض، تسمع صفارات الإسعاف، وتلمح أضواء الدفاع المدني وهم يحاولون انتشالها، بينما تُنتشل بقية أفراد أسرتها جثثًا هامدة بين أشلاء ومحترقة بالكامل.
تقول ألفت: "لم أدرك في لحظتي الأولى أن قدمي اليمنى قد بُترت، وأن الأطباء اضطروا إلى اتخاذ قرار حاسم بعدما تعذّر إنقاذي في ظل انعدام الإمكانيات الطبية وتكدّس المصابين في غرف العمليات، وحين كانت إحدى الممرضات تربط الضمادات على بقايا ساقي، تلقيت الخبر الذي شطر قلبي: «والدتك استشهدت أيضًا»، شعرت حينها أن كل شيء انهار دفعة واحدة؛ الجسد، والبيت، والأسرة، والكتف الذي كنت ارتكز عليه في الحياة".
غادرت ألفت المستشفى وهي عاجزة عن فهم شكل الحياة القادمة، لتجد نفسها في خيمة صغيرة تعيش فيها مع شقيقتها المتزوجة وخمسة عشر فردًا آخرين، الخصوصية معدومة بالكامل حتى لحظة دخول دورة المياه تتحول إلى "معركة"، كما تقول: "أحتاج لتحريك كرسيّ المتحرك فوق أرض مليئة بالحجارة والركام والطين خاصة في الليل حين يخيّم الخوف وتزداد ظلمة المكان، تتكرر المعاناة ذاتها حين أذهب لتغيير الضماد؛ الطرقات المؤدية إلى النقطة الطبية مليئة بركام المنازل المحطمة، وكل خطوة تدفعني فيها العربة فوق الحصى كفيلة بإعادة الألم الجسدي والنفسي".
حاولت التواصل مع جمعيات الإغاثة والمؤسسات العاملة مع ذوات الإعاقة، لكن الردّ ظلّ نفسه: " "سجّلنا اسمك.. وعندما يتوفر جديد سنبلغك". جديدٌ لم يأتِ، وساقٌ لن تعود، وواقع لا يرحم امرأة مبتورة تعيش في خيمة تتسرب إليها الرياح والمطر ولا تتيح لها حتى لحظة بكاء بصمت.
على مقربة من قصة ألفت، تنبض حكاية أكثر قسوة لشيرين أبو الكاس، الفتاة ذات السبعة عشر عامًا التي بدأت حديثها بعبارة: "شعرت حينها أنني دفنت في قبر"، كانت اللحظات الأخيرة قبل الكارثة في مساء الثامن والعشرين من مايو 2025 عادية تمامًا؛ والدتها تسخّن العدس لوالدها شفيق، العائلة تتناول العشاء، ثم يذهبون إلى النوم عند التاسعة والنصف، تقول شيرين: "اعتدت أن أدخل على والدي قبل نومي لأسأله عما إذا كان يحتاج شيئًا، وكان حينها يتابع الأخبار على هاتفه، عند الساعة الحادية عشرة، تغيّر كل شيء، الاستهداف جاء مباشرًا للطابق الثالث الذي كنا ننام به، لم أشعر بالانفجار، فقد كنت نائمة لكنني استفقت لأجد نفسي تحت الأنقاض، عمود البيت على قدميّ، وصخرة ضخمة تضغط على صدري حتى ضاق نفسي تمامًا".
نادت أسماء إخوتها فلم يجب أحد، وأغمضت عينيها مجددًا حتى وصل أحد الجيران وحاول إخراجها، لكنه لم يتمكن من رفع العمود الذي كان يسحق ساقيها، فاستدعيت طواقم الدفاع المدني التي انتشلتها بأعجوبة.
تصف شيرين تلك اللحظة قائلة إنها حين جلست على سرير الإسعاف كانت تتنفس الرمل، وحبات الحصى عالقة في أذنيها، ودماء غزيرة تغمر قدميها، حاولت أن ترفع جسدها لترى ما يحدث، فوجدت أن ساقيها اختفتا تمامًا. جلد فقط، لحم ممزق، وعظام لم يعد لها شكل. أغمي عليها قبل أن تُنقل إلى مستشفى المعمداني حيث خضعت للبتر، ثم لسلسلة عمليات يومية لمدة عشرين يومًا لإصلاح الفرق في مستوى البتر بين الساقين. وبعد شهر كامل، خرجت من المستشفى لأن الأسرّة يجب أن تُخلى لجرحى آخرين. خلال فترة علاجها لم يكن الدواء متوفرًا ولا الغذاء الملائم، فالمعابر مغلقة والأسعار مرتفعة، والأطباء منهكون بآلاف المصابين.
بعد ثلاثة أيام من إصابتها، جاء الخبر الذي لم تحتمل: العائلة كلّها استشهدت. والدتها سميحة، شقيقاها نضال وأحمد، شقيقتها هبة، جدتها وجدّها، عمتها وأبناؤها، عمها وزوجته وطفلاه. الجميع قضى تحت الأنقاض، ولم يُدفن إلا من استطاعت الطواقم إخراجه. لم ينجُ أحد سوى شيرين وشقيقها مصطفى الذي أصيب برضوض طفيفة في الظهر. خرجت من المستشفى لتسكن في منزل يعود لأحد أقاربهم، حيث تعتني بها زوجة عمها وترعاها مع أحد عشر فردًا آخرين يعيشون في مساحة ضيقة لا تتوفر فيها أي خصوصية. تقول شيرين إنها حتى اللحظة لا تجد مكانًا تبكي فيه وحدها، وإنها تشعر وكأنها تنفجر من الداخل في كل مرة تضطر فيها زوجة عمها لمساعدتها في الاستحمام أو تبديل ملابسها أو حملها من فراش الأرض إلى كرسيها.
ومع كل هذا الوجع، ظلت شيرين متمسكة بدراستها؛ كانت تستعد لامتحانات الثانوية العامة لعام ونصف، تبذل جهدًا كبيرًا في المذاكرة رغم الحرب والتجويع. لكنها اليوم محرومة من التعليم، لا تستطيع الذهاب لأي مركز من مراكز التعليم المؤقتة، ولا تستطيع الجلوس مطولًا على كرسي متحرك غير ملائم، ولا تملك أدوات تعليمية أو مساحة هادئة تساعدها على الدراسة. "كأن الحرب لم تكتفِ بجسدي، بل سلبت مستقبلي أيضًا"تقول شيرين بصوت خافت.
وفي خيام النزوح، تبدو معاناة ذوات الاحتياجات الخاصة أكثر قسوة مما تظهر في الحكايات الفردية. دورات المياه غير ملائمة، الأرضيات رملية وطينية، الممرات ممتلئة بالركام والزجاج، الكراسي المتحركة تهترئ قبل أن تكمل شهرًا، والخصوصية معدومة إلى حدّ أن النساء يفضلن حبس الألم على طلب المساعدة. وفي كثير من الأحيان تضطر المصابات إلى ارتداء الضمادات في ظروف غير معقمة ما يعرّضهن لالتهابات خطيرة. لا أسرّة طبية، لا مرافق مخصصة للاستحمام، ولا نقاط طبية قريبة تقدم الرعاية المناسبة.
تقول المستشارة النفسية لطيفة شتات إنّ ما تتعرض له النساء ذوات الإعاقة في خيام النزوح هو انهيار شامل لمنظومة الأمان النفسي والجسدي معًا، خاصة حين تفقد المرأة أطرافها أو قدرتها على الحركة، ثم تجد نفسها في بيئة غير مهيأة، مزدحمة، بلا خصوصية ولا رعاية، وتحت ضغوط مستمرة من الألم والخوف واعتمادها القسري على الآخرين.
وتضيف: "إن المرأة التي تُبتر قدمها أو تُصاب بإعاقة حركية لا تفقد طرفًا فقط، بل تخسر إحساسها بالاستقلال، وتتعرض لاهتزاز عميق في صورتها الذاتية، وقدرتها على اتخاذ القرار، وطريقتها في التعامل مع العالم من حولها، خصوصًا حين تُوضع في مكان مكتظ تشعر فيه بأن كل حركة لها مرصودة، وكل احتياج يحتاج إلى استئذان".
وتوضح شتات أنّ الضغط النفسي على النساء في هذه الظروف يتضاعف بسبب غياب أي خصوصية، وغياب المساحات المناسبة للعناية بالجروح، أو الاستحمام، أو التخلص من الألم بعيدًا عن ضجيج الخيمة، مؤكدة أنّ ذلك يُنتج أعراضًا نفسية شديدة مثل نوبات الهلع، اضطرابات النوم، فقدان الشهية، فرط الحساسية من الأصوات، إضافة إلى شعور دائم بالذنب لأنهنّ يعتمدن على الآخرين لإتمام أبسط احتياجاتهن اليومية.
وتشير إلى أن جزءًا كبيرًا من هذا الألم يمكن تخفيفه لو توفرت تدخلات إنسانية متواضعة ولكنها حيوية، وتقول: "لسنا نتحدث عن رفاهية، بل عن احتياجات أساسية تضمن الحد الأدنى من الكرامة. يمكن عبر تدخلات بسيطة جدًا أن نخفف الألم النفسي والجسدي لهؤلاء النساء، وأن نعيد لهن جزءًا من الإحساس بالسيطرة على حياتهن حتى وهن داخل الخيام".
وتقترح أربعة حلول تراها واقعية وممكنة حتى في ظل الحصار ونقص الموارد أهمها: إنشاء وحدات صحية متنقلة مخصصة لذوات الإعاقات، وتخصيص زوايا آمنة داخل مراكز الإيواء، وتوفير أدوات مساعدة بسيطة قابلة للاستخدام في بيئة الخيام، وتقديم جلسات دعم نفسي قصيرة موجّهة لذوات الإعاقة وأسرهن.
وتختم لطيف شتات حديثها قائلةً:"حين نفشل في توفير مساحة آمنة لامرأة مبتورة تعيش في خيمة، فنحن نحرمها من حق أساسي كفلته الاتفاقيات الدولية وهو الحق في العيش بكرامة، وما تطلبه النساء ذوات الاحتياجات الخاصة ليس معجزة بل ما يثبت أنهن ما زلن جزءًا مرئيًا من هذا العالم، لا ظلال تُترك خلف الأسوار الممزقة للخيام".
