صورة قلمية لمشهدية غير وردية لـ"اليوم التالي"

تنزيل.jpg
حجم الخط

بقلم د أحمد يوسف

الاحتلال بصدد إعادة تركيب هياكله الاستيطانية والأمنية كما كانت قبل عودة السلطة الوطنية
خسرنا الكثير على مستوى الحكم والهوية والوجود الوطني
الحرب ستنتهي حتماً ولكن ويلاتها ستعيش معنا لأجيالٍ قادمة
سيظل الجميع يُقلّب بصره خاسئاً وهو حسير لما سبق ٧ أكتوبر من عيشٍ رغيد

على مدار عام من الحرب العدوانية على قطاع غزة، يتردد مصطلح (اليوم التالي) على ألسنة السياسيين والنازحين على حدٍّ سواء، إذ لا توجد هناك قراءةٌ واضحة أو تصورٌ مفهوم لجوهر هذا (اليوم التالي)، وإن كان هذا المصطلح من دلالاته ما يفيد أن هناك انسحاباً إسرائيلياً كليَّاً أو جزئياً من القطاع، وأن فرص عودة الكثير من النازحين إلى أماكن سُكناهم باتت تلوح في الأفق، وإن كانت إشراقة صُبح هذا (اليوم التالي) تبدو لناظريه ليست بالقريبة القريبة، لتعقيدات حسابات التفاوض؛ فالمفاوضات -كما يقولون- "بدايدها وحبالها طويلة".


وفي ظل حالة التكدّس الهائل لخيام النازحين على مساحة لا تزيد عن 10% من مساحة قطاع غزة من الأراضي المشاطئة للبحر (منطقة المواصي)، والتي يُقيم عليها أكثر من مليون وسبعمئة ألف نازحٍ في ظروف إنسانية ومعيشية بالغة الصعوبة، مع قلق دائم مما يُخبّئه المجهول من غموض اليوم التالي، إذ إن تقسيم القطاع بين شمال وجنوب، ومحوري فلادلفيا ونتساريم تُقيّد أيّ مستقبلٍ لحركةٍ حُرَّة داخل قطاع غزة أو في اتجاه الخروج منه، في مشهدية قد تكون الأكثر سوداوية في تاريخ النكبة الفلسطينية بسرديتها الأولى والثانية، والتي لمَّا تنتهِ كلُّ تفاصيلها بعد.


في "مخيم منتزه النخيل" بحي تل السلطان بمدينة رفح، أشرفت لسبعة شهور على مركز الإيواء الذي كانت تحتشد فيه وفي الجوار القريب منه حوالي 400 عائلة من النازحين من مدن شمال القطاع ومناطقه الوسطى، حيث كنا نقوم بتأمين الطعام والشراب لهم بشكل يومي داخل المخيم، مع ما سبق تجهيزه من احتياجات الإيواء العاجل ومتطلبات المبيت والمعيشة من الأثاث الذي يوفر الحد الأدنى من الكرامة والمتطلبات الإنسانية لهؤلاء النازحين.


اجتهدنا مع عشرات المتطوعين ممن أقاموا مخيمات أخرى وتكايا عثمانية، أن نُحيي الأمل في نفوس هؤلاء النازحين، والتذكير بأنَّ (اليوم التالي) يحمل معه حلماً جميلاً لا كابوساً ثقيلاً، وأن جموعهم ستشد رحيل عودتها إلى بيوتها قريباً، وأن القضية مسألة وقت، لن تطول أسابيعها وسيكون الكلُّ في بيته، وما ذلك على الله بعزيز.

يوم اجتياح رفح

في اليوم الذي أعلنت فيه إسرائيل أنها ستقوم باجتياح رفح، كان الكثير من أهالي حي تل السلطان قد عقد العزم على عدم المغادرة، إلَّا أن عشرات الآلاف من النازحين داخل الحي أخذت تهرول هلعاً مغادرة المدينة باتجاه البحر والمناطق الوسطى، محذرة من هول ما هو آت، بحكم ما سبق أن مرَّت به من تجربة نزوح تشيب لها الولدان.


أجبرتنا القذائف التي صبَّت حِممها بشكل عشوائي على الحي في ذلك الليل الحالك الذي صدرت فيه التحذيرات، على إعادة النظر في قرار "عدم المغادرة"؛ لأن البقاء كان يعني انتحاراً لا بطولة من ورائه ولا طائل، وفي لحظة كانت فيها خيارات الموت تطاردنا، صار قرار المغادرة يعني السلامة حتى حين.


حسمنا قرار المغادرة، وحملنا ما خفَّ من متاع وتوجهنا إلى مكان كان قطعة أرض يملكها أخي (صالح) حيث نصبنا خيامنا أو ما يشبه الخيام، إلى جوار عائلات أخرى مثل العامودي، والشاعر، وعبد العال، وأبو شمالة، والريفي، وغيرهم..


وبناءً على هذا الواقع الجديد، بدأنا في ترتيب شؤون حياتنا، والعمل على تجهيز التكيَّة التي ستقدم لنا وللنازحين ما يسد رمقهم من الطعام.


حاولنا أن نحاكي أجواء المخيم الأول، وشرعنا في تقاسم العمل كلٌّ بما تيسَّر بين يديه من المال والعلاقات ودروب التواصل مع الجهات الإغاثية المانحة، التي سبق لنا فتح شرايين العلاقات معها كالصليب الأحمر، وتيار دحلان الإصلاحي، ولجنة التنمية الاجتماعية، وبعض رجال المال والأعمال من أصدقاء الزمن الجميل..

"اليوم التالي" لغزٌّ محيّر

في سهرات الليل وجلسات العصر كانت مشهديات (اليوم التالي) هي محط خيال المتحدثين، حيث أطلقَ كلُّ واحد منهم العنان لتعزيز ما يراه الحلم الآخذ بالتشكل في سياق التمني والتحلي.


(اليوم التالي) هو لغزٌّ محيّر، لأن الجهات التي تتحكم في تحديد ملامحه هي أطراف إسرائيلية وأمريكية ووسطاء من مصر وقطر مهمتهم تطويع أطراف فلسطينية بالموافقة والقبول، باعتبار أن ليس بالإمكان أفضل مما هو معروض وتلوكه ألسنة نتنياهو وحليفه الأمريكي بايدن.


من أبجديات السياسة أنَّ صاحب اليد العليا في الميدان هو من يمسك القلم ويحدد نقاط وشروط الاستسلام، فمن المعروف أن المفاوضات لكي تنجح يجب أن يشعر الطرفان بأنّ هناك مصلحةً قد تحققت لكلِّ منهما، أو أن ما يجري ليس أكثر من لقاءات عبثية يتلاعب بها الطرف الأقوى لخلق أجواءٍ تتناسب ومخططاته، ويعمل على شراء الوقت لفرض ذلك على مراحل متفرقة.


في متابعتنا لمشهدية الميدان، نرى أن فرص (اليوم التالي) بعد كلِّ هذا الدمار الهائل الذي أعقب حالة ما بعد السابع من أكتوبر، حيث تقلصت مساحات الأحياء السكنية لحساب المناطق الأمنية العازلة التي بسط عليها الاحتلال تحصيناته وأحزمته النارية، وهو بصدد إعادة تركيب هياكله الاستيطانية والأمنية بما كان قائماً قبل الانسحاب من قطاع غزة بعد توقيع اتفاق أوسلو 1993، وعودة السلطة الفلسطينية لبدء أركان حضورها الرسمي في الضفة الغربية وقطاع غزة.


مشاهد (اليوم التالي) لا تبدو وردية المعالم، وليس مشهدية بعيدة عن مظاهر الاحتلال، وصور معاناتها الإنسانية ستمتد سنين قبل أن يعيد هذا الشعب تحت الاحتلال الجديد بناء مقومات وجوده، ليعيش بكرامة تسمح له -وسط أحزانه وفقره- بناء عائلة مستورة يُكمل بها مشوار حياته، انتظاراً لصبح تشرق فيه شمس أحلامه الوطنية من جديد.

عودة النازح إلى أنقاض البيت

(اليوم التالي) للفلسطيني في قطاع غزة، هو اليوم الذي يعود فيه النازح إلى أنقاض بيته ليضع فوقه أو بجواره موطئ قدم لسكناه ما بعد النكبة الثانية الكبرى، أو يحاول إصلاح غرفة بجواره ويجلس بانتظار وصول المساعدات الدولية الإنسانية والإغاثية التي تستر عورة حاجته وتقيه برد الشتاء، وتوفر له نقطة طبية لعلاج أطفاله الصغار أو تؤَّمن له كسوة ومساعدة مالية أو حتى وظيفة متواضعة لأبنائه تغنيهم عن ذلِّ السؤال، وتعفيهم من استجداء الجمعيات والجهات الدولية بما يحفظ لهم أود كرامتهم.


(اليوم التالي) على المدى القصير، لن يكون في إطلالاته الأولى بحجم الطموحات والأمل، بل هو امتداد لشهور عجاف من العيش في مخيمات النزوح والتشريد بكلِّ ما حملته أيامها ولياليها من عثرات وأمراض جلدية وشعور بالقهر والضجر، هي أيام وليالي سيظل الكلُّ فيها يقلب بصره خاسئاً وهو حسير، يفكر فيما سبق السابع من أكتوبر، وما كان فيه من عيش رغيد واستقرار وازدهار نسبي، لا تخطئه عين صاحب القول السديد.


(اليوم التالي)، هو اليوم الذي سنظل مع مشهدياته نتذكر كل ما سبق من أيام وشهور وسنين كنا ندير فيها شؤون حياتنا ومستشفياتنا وجامعاتنا ومدارسنا، وكنَّا السيد في معظم قراراتنا، والسفر متاح لنا للعمل والحياة خارج جغرافيا القطاع، لنعود من جديد الآن إلى الاحتلال والحصار والملاحقة، ومشهديات أخرى لم يسبق وأن عايشناها في احتلالات أخرى.

اليوم التالي لن يكون سعيداً

(اليوم التالي) لم ولن يكون يوماً سعيداً.. نعم؛ ستتوقف الحرب، ولكن ستتعدد صور معاناتنا في ظل تداعياتها، إذ ستفقد الكثير من الأسر تواصلها وترابطها وستبدأ مسيرات بحث (لمِّ الشمل)، وستخضع كلُّ مظاهر حياتنا للمراقبة الأمنية والمطاردة وانتشار العملاء وتفشي سلوكيات الفساد ونحو ذلك من الحالات الاجتماعية المصاحبة للوضعيات الاستعمارية، وحالات الاحتلال.


لا شك بأن الحرب ستنتهي، ولكن ويلاتها ستعيش معنا لأجيال قادمة.


لقد خسرنا الكثير على مستوى الحكم والهوية والوجود الوطني.. وبانتظار صباح اليوم التالي، ما تزال هناك سويعات تسبق شقشقات فجره، لكن تقلبات أجسادنا فيها داخل الخيام ونحن نهدهد أطفالنا ونكفكف ما ذرفته عيوننا من دموع، هو كل ما تبقى لنا، وقد شلّت الكارثة قدراتنا على مغالبة هذا العدوان الغاشم، الذي تواطأت معه دول الغرب الاستعماري والكثير من ذوي القربى في مشهدية من الصدمة والذهول التي أصابت أمة العرب والمسلمين.


قد لا أكون بجرأة الشاعر العراقي مظفر النواب، حين انهال بكلماته الجارحة (من الزنار ونازل) على مواقف الرسمية العربية الانهزامية خلال مراحل زمنية مشابهة في قصيدته الشهيرة "القدس عروس عروبتكم".


لكن يكفي أن أُذكِّر بها لمن أراد أن يتشفَّى من حالة الخذلان الرسمية لأمة كانت في إطلالة أمجادها عظيمة.