أمام شهوانية الدم التي باتت تحرك مغامرة نتانياهو للشهر الثاني عشر من المذبحة التي تنفذ على الهواء مباشرة، يبدو أن ما يسمى بالمجتمع الدولي، أي القوى المهيمنة على القرار الدولي، يُحَوّل انحيازه للعدوانية الاسرائيلية إلى ما يشبه الاستسلام أمام الرغبة في استمرار تلك المذبحة، رغم تعارضها مع المصلحة الانتخابية للإدارة الديمقراطية، التي تدرك أن ما يحرك نتانياهو للمضي بهذه الحرب ليس فقط مصلحته الشخصية المباشرة، بل وكذلك رغبته في اسقاط فرصة كمالا هاريس، ليقدم صعود ترامب مرة أخرى للحكم، في محاولة للتحالف معه لمنحه الضوء الأخضر لاستكمال مهمته في تصفية القضية الفلسطينية من كامل أبعادها الجغرافية والديمغرافية والجيوبولتيكية على صعيد المنطقة.
قلق نتانياهو على وظيفة إسرائيل
لو عدنا قليلاً لخطاب نتانياهو في الكونجرس ، فإن أبرز ما يلفت الانتباه في ذلك الخطاب يتمثل في القلق الاستراتيجي على وظيفة ومكانة إسرائيل في السياسة الخارجية لواشنطن. ربما يعود ذلك ليس فقط لبعض أشكال التوتر مع الادارة الحالية التي استخلصت تراجع الوظيفة الاستراتيجية لإسرائيل كشرطيّ لمصالحها في الشرق الأوسط، حيث باتت بحاجة للحماية المباشرة من قبل أساطيلها، وليس مجرد الدعم الشامل لها، الأمر الذي يشي باهتزاز مكانة واشنطن الكونية، في وقت هي تخوض حرباً على هذه المكانة في اطار الصراع الكوني على طبيعة النظام الدولي في مواجهة الصين و روسيا ومجموعة بريكس بشكل عام .
تعنت نتانياهو يفضح ادعاءات واشنطن
ورغم استمرار الدعم الأمريكي غير المسبوق لإسرائيل، إلّا أن بايدن نفسه لم ينجح و لو لمرة واحدة في أن ينتزع أو يستدرج نتانياهو إلى دائرة وقف إطلاق النار، ولو على مراحل، وقد نجح نتانياهو حتى الآن من تحويل الادعاءات الأمريكية بالحرص على حياة المدنيين، أو رفضها لاقتطاع أي جزء من أراضي القطاع، أو الانسحاب الشامل منه ، لا بل ومن أراضي مصرية "محور فيلادلفيا" إلى مجرد نفاق أمريكي مكشوف طالما لم تنجح أمريكا في مجرد وقف حرب الابادة، بل فهي تصارع القانون الدولي، بأنها ليست كذلك، الأمر الذي يؤكد عدم رغبتها أو عدم قدرتها على ذلك، هذا إن لم تكن هي فعلاً تعطي الضوء الأخضر لاستمرارها.
من المؤكد أن السياسة الأمريكية في المنطقة تعطي الأولوية لتفوق إسرائيل العسكري، ولكن أيضاً فإن واشنطن حريصة على مصالحها في المنطقة. وهنا يبرز سؤال ما الذي يجعل الولايات المتحدة غير قلقة على هذه المصالح؟ والجواب البسيط أنها لا ترى في واقع الأنظمة العربية أكثر من أدوات تلهث وراء سياساتها الداعمة لإسرائيل، إن لم تكن ترى في إسرائيل حليفاً لحمايتها، في وقت أن سياسات واشنطن الاستراتيجية تسعى لانحسار وجودها العسكري المباشر في المنطقة، كما حدث في أفغانستان، وكما يجري في العراق، وأن عودة أساطيلها كانت بالأساس لحماية إسرائيل، و ردع أي دولة تفكر في تهديد أمنها ومكانتها .
انحياز واشنطن وغياب التأثير العربي
خلاصة القول؛ أن ما يجري من انهيار للنظام العربي وانعدام تأثيره على صناع القرار الدولي، رغم حالة الغليان لدى الأغلبية الساحقة للشعوب العربية سواء بفعل معاداتها لإسرائيل أو التزامها بعدالة الحقوق الوطنية الفلسطينية، وما قد يترتب على ذلك من عدم استقرار خطير للمنطقة وللأنظمة الحليفة لها، ومع ذلك فهي لا تبدي أي اكتراث بالرأي العام في البلدان العربية، ذلك انطلاقاً من اعتقادها أن استمرار الحرب وميوعة موقفها ازاء متطلبات وقفها وفقاً لمبادرة بايدن ذاتها، لن يغير اتجاه سياسات النظام الرسمي العربي، الذي ما زال يخطئ التقدير ازاء تداعيات ما يجري، ولعل بعضهم يجد في غياب الموقف الفلسطيني الموحد غطاءً للاستمرار في ذلك، مُلقين المسؤولية على انقسام الفلسطينيين دون بذل ما يكفي من جهد حقيقي لطي هذه الحقبة السوداء في التاريخ الفلسطيني. إلا أن احتمال انفجار الأوضاع في عدد من الدول العربية كما جرى في العملية التي نفذها المواطن الأردني ماهر الجازي، قد يفرض عليها، و ربما على تل أبيب مراجعة تلك الاستراتيجية التي لا تقيم وزناً للعرب .
الانقسام محرك الأطماع العدوانية
بيت القصيد أمام هذا الواقع هو المسؤولية الفلسطينية لمعالجته وتنفيذ متطلبات ترميمه، سيما أن القضية الوطنية ليست هي فقط المعرضة للخطر، بل، فإن المصالح الضيقة لبعض القادة المستمرئين حالة الانقسام باتت أيضاً مهددة. فقد أصبحوا، رغم التزامهم العملي بالتعاون وليس مجرد التنسيق الأمني ومواصلتهم استراتيجية استرضاء المحتل ، خارج الحاجة الاسرائيلية لدور الوكيل، هذا بالإضافة لعزلتهم الشعبية.
الاستسلام ليس خياراً والهزيمة ليست قدراً
هل ستدرك القيادة المتنفذة، ومعها الدول العربية "المؤثرة" سواء التي تمتلك اتفاقيات مع تل أبيب أو الساعية لها، طبيعة المخطط الإسرائيلي، إذا انكسرت غزة، فما بالهم إذا نجحت إسرائيل في مخططات تصفية القضية الفلسطينية؟ وهل يعلمون أنه إذا استسلم العالم بأسره، وهم من ضمنه لهذه المخططات، بأن الشعب الفلسطيني ليس لديه من خيار سوى مقاومته، فحتى لو اختفت حماس، وظني أن هذا لن يحدث، ومعها اختفت فتح وكل الفصائل التي تدور في فلكها، فشعب فلسطين سيخرج من وسط الرماد شاهراً حقه وإرادته التي لن تنكسر حتى يستعيد حقوقه ومكانته في الحضارة الإنسانية.