ن فرط الجنون الذي تروج له السلطوية الحاكمة في مصر، يصح في مجال تحليل حقائق قمعها للمواطن وإخضاعها للمجتمع وسيطرتها على الدولة أن نترك لبعض من الوقت أدوات العلوم السياسية، ونقاربها عبر توظيف صور ورموز ولغة كافكا في الماضي وهاروكي موراكمي في الحاضر كحالة شاملة من العبث المأساوي التي تثير مشاهدها الضحك تارة والشفقة تارة ثانية ومرات ومرات الحزن على بلاد بدت قبل سنوات معدودة وكأنها مقبلة على تغيرات إيجابية كبرى.
يقتل مواطن في حي من أحياء القاهرة (الدرب الأحمر) برصاص أحد أمناء الشرطة في ممارسة إجرامية صريحة. يخرج على إثر ذلك بعض أهالي الحي في تظاهرات عفوية تحيط بمقر أمني، وتعبر علنا عن غضبها من العنف الرسمي والجرائم والتجاوزات الممنهجة للشرطة. ولأن الناس لا ثقة لديها في محاسبة عادلة ومنضبطة للأمين القاتل تجريها الأجهزة الأمنية أو تضطلع بها سلطات عامة أخرى، تعلو أصواتهم مطالبة بمحاسبة «أهلية» ينفذونها هم في تعبير مباشر عن انهيار تراكم منذ اغتصبت السلطوية مصر لقبول قطاعات شعبية عديدة لفكرة الدولة العادلة القادرة على صون حقوق وحريات المواطن وعلى تطبيق مبادئ سيادة القانون. تعلو أصوات الناس مطالبة بمحاسبة «أهلية» للأمين القاتل على نحو يهدد دون ريب الأساس الوجودي للدولة وينذر بصعود كارثي لأفكار «ما قبل الدولة» البدائية عن القصاص، غير أن مسبباته وثيقة الارتباط بتكرر قتل المصريين خارج القانون، وقتلهم تعذيبا في السجون وأماكن الاحتجاز، وقتلهم في الفضاء العام بفعل العنف الرسمي، وبعد أن تكررت أيضا الأحكام الجزافية والانتقامية بشأن مواطنات ومواطنين رفضوا الصمت على القمع والمظالم والانتهاكات.
تحشد السلطوية الحاكمة «أذرعها الإعلامية» وأبواقها الحاضرة بكثافة في الفضاء العام، لكي تتعامل بداية مع جريمة «الدرب الأحمر» كتجاوز فردي تورط به أحد المنتمين للأجهزة الأمنية لا ينبغي أبدا تعميمه أو استخدامه لإطلاق الاتهامات بشأن العنف الرسمي الممنهج والانتهاكات المستمرة التي يتعرض لها المواطن.
حين تتعطل قدرة الأذرع الإعلامية وأبواق السلطان على تزييف وعي الناس عبر الترويج لرواية «التجاوزات الفردية» وتستبعد شعبيا بعد أن توالت خلال الأشهر الماضية جرائم مشابهة قتل بها مصريون على يد عناصر منتمية للأجهزة الأمنية واختزنت ذاكرة الناس مقتل مواطن في مدينة الأقصر تحت التعذيب في أحد أقسام الشرطة ومواطنين آخرين في مواقع أخرى، يسقط الخطاب الرسمي في غياهب عبثية جديدة توظف صورا ورموزا وصياغات لغوية مختلفة.
هنا ينتج عبث جديد عن «المتربصين بالوطن» الذين يريدون تشويه العلاقة بين الشعب المصري وبين الأجهزة الأمنية التي تحميه وتفتديه وتحارب من أجله الإرهاب، عن «المؤامرات الداخلية والخارجية» التي تحيط بمصر وتستهدف إسقاط الدولة ونظام الحكم والسلطات العامة من خلال مهاجمة الشرطة وإثارة القلاقل وتأليب الناس على «رئيس الجمهورية» الذي لا ينام لإنقاذ البلاد من أخطار المؤامرات والانهيار. هنا ينتج عبث جديد عن كون التظاهرات العفوية في الدرب الأحمر من تنظيم «مخابرات أجنبية» تريد زعزعة استقرار البلاد وهدم دولتها وإلحاقها بمصائر مشابهة في الشرق الأوسط.
يتحول الغضب الشعبي في الدرب الأحمر إلى صنيعة مؤامرات ومخططات أجنبية، ويصبح الرفض المشروع للعنف الممنهج والجرائم الممنهجة والانتهاكات المتراكمة إلى تربص بالوطن. وبين الصور والرموز والصياغات اللغوية العبثية الجديدة تضيع في عالم السلطوية شرعية محاسبة قتلة المصريين ومرتكبي الجرائم بحقهم، وتغيب أيضا كل معالجة جادة لانهيار القبول الشعبي لفكرة الدولة العادلة وسيادة القانون ولنزوع الناس «للقصاص بأياديهم» والسقوط في هاوية أفكار ما قبل الدولة البدائية.
ثم تغلق «وصلة» العبث السلطوي بخروج المسؤول الأول عن المظالم والانتهاكات داعيا إلى إصلاحات تشريعية لتحسين أداء الأجهزة الأمنية، متبوعا بالمسؤول الأول عن أجهزة التعذيب وانتهاك حقوق المواطن في الحياة والكرامة والحرية مستقبلا لوالد ضحية الدرب الأحمر وقاطعا لوعد رسمي بالقصاص الرسمي من قاتل ابنه.
في مصر اليوم تغتال السلطوية العقل، وتروج للجنون، وتجعل من العبث المأساوي الحقيقة الوحيدة. وإلى ننعتق من السلطوية، ليكثر من يستطيع من قراءة كافكا وموراكمي.
قراءة لما يحدث قد لا تُعجب البعض وأرجو أن أكون مخطئا ً!
14 أكتوبر 2023