الرد الإيراني يعيد توازن الردع

WptCE.jpg
حجم الخط

الكاتب: رجب أبو سرية

 

رغم أن الرد الإيراني الذي وقع مساء الثلاثاء الماضي اقتصر على الصواريخ ولم يتضمن الطائرات المسيرة كما كان ردها الذي وقع في نيسان، إلا أنه كان أكثر تأثيراً على إسرائيل، وفي أكثر من مستوى واتجاه، فرد إيران على اغتيال رضا زاهدي في قنصلية إيران بدمشق، كان معنوياً بالدرجة الأولى، وهو عملياً كان أول احتكاك عسكري مباشر بين إيران وإسرائيل، رغم أن إسرائيل قد تطاولت على إيران كثيراً، باغتيال العديد من رجالها في طهران والعراق وسورية، فكان الرد الإيراني أول إطلاق من نوعه لصواريخ مباشرة نحو إسرائيل، وكان عبر مسيرات تحتاج ساعات طويلة لتصل إسرائيل وصواريخ تقليدية تحتاج أيضاً إلى وقت يصل لساعة أو أكثر، أي يكون عرضة للإسقاط بالصواريخ الاعتراضية قبل أن يصل، وهذا ما حصل حين اعترضته المضادات الأميركية الموجودة في القواعد الموجودة في المنطقة.
أما هذه المرة، فإن الرد كان أكثر قسوة، وقد دل على ذلك رد الفعل العصبي من قبل قادة إسرائيل، إن كانوا من أعضاء الحكومة أو المعارضة، وكان الرد اقتصر على نحو مائتي صاروخ، لكن أكثر تطوراً، من فئة الفرط صوتي، كمثل الصاروخ اليمني الذي وصل تل أبيب في 11 دقيقة فقط، ولجأ الإيرانيون إلى الخديعة، بعد أن أوحوا بعدم الرد، وفي ليلة الرد بتسريب توقيت أبعد ساعتين من التوقيت الحقيقي، كما أن إسرائيل توقعت صواريخ تقليدية سيقومون هم والأميركيون باعتراض معظمها، لكن المفاجأة كانت في مباغتة الإسرائيليين بصواريخ أطلقت من الحدود الشمالية مع أذربيجان، أي أن الإيرانيين كانوا يسعون إلى مباغتة الإسرائيليين حتى تكون الضربة موجعة، كما أنهم بصواريخهم المائتين قد تعمدوا أن يغطوا كل مساحة إسرائيل، في تل أبيب ويافا وعكا وإيلات.
وحقيقة الأمر أن الداخل الإسرائيلي، من إيلات إلى تل أبيب وحيفا، يتعرض لأول مرة في تاريخ إسرائيل، إلى تأثيرات الحرب، بعد أن كانت إسرائيل خلال الحروب السابقة مع الجيوش العربية، تنجح أولاً في شن الحروب الخاطفة، وتحسمها، خاصة بسلاح الجو، خلال أيام معدودة، وثانياً تجعل من أرض الخصم ساحة الحرب، أي أنها كانت دائماً تبعد مواطنيها واقتصادها عن تأثيرات أو تبعات تلك الحروب، لكن حزب الله كان أول من كسر هذه القاعدة العام 2006، بعد أن كان صدام حسين قد أطلق رشقة صواريخ على إسرائيل خلال الحرب الثلاثينية التي شنها الغرب بقيادة أميركا على العراق العام 1991.
وهذا الرد الإيراني جاء كرد على اغتيال الشهيد إسماعيل هنية في طهران قبل شهرين، واغتيال الشهيد حسن نصر الله قبل خمسة أيام، يرافقه الشهيد عباس نيلفورشان الذي وصف بأنه مسؤول ملف لبنان في فيلق القدس التابع للحرس الثوري، ويبدو أن إيران اضطرت إلى اتخاذ القرار الصعب بعد ضغط من الحرس الثوري على القيادة السياسية، بحيث جاء القرار من المرشد الأعلى، أي من رأس الدولة، لما ينطوي عليه الرد من احتمالات بإطلاق الحرب الإقليمية الشاملة، بعد أن مارست إيران لسنوات طويلة سياسة الصبر الإستراتيجي، لتحقق خلال تلك السنوات حالة التوازن في الردع العسكري مع إسرائيل، المتفوقة على كل دول الشرق الأوسط، بترسانتها العسكرية، وبالدعم الغربي الأميركي العسكري والمالي والسياسي غير المحدود.
كما أشرنا، انتقلت إيران خطورة إلى الأمام على طريق الردع، الذي حققه حلفاؤها دونها، خلال ما يقارب العام، عبر جبهات إسناد غزة، أي جبهات فلسطين ولبنان واليمن والعراق، وكانت خطوتها الأولى قد تمثلت في ردها "الرمزي" أو الذي جاء كتحذير، في نيسان الماضي، حين تعرضت للحرج باغتيال إسرائيل لأحد رجالاتها فيما يعتبر رمز سيادة خاصاً بها، أي قنصليتها في دمشق، أما حين اغتيل هنية في قلب طهران، وكان ضيفاً على الدولة، فكان لا بد من الرد، وبالطبع رد يكون مختلفاً عن سابقه، لأن الهدف هو ردع إسرائيل ومنعها من مواصلة العربدة، لكن أميركا تدخلت وخدعت إيران، حين عرضت عليها عبر الأوروبيين، صفقة وقف الحرب على غزة مقابل عدم الرد على اغتيال هنية، وكان العرض مقبولاً على إيران، لكن أميركا وإسرائيل تنصلتا، وعاود بنيامين نتنياهو للتهرب من إنجاز الصفقة، بل وزاد الأمر، بنقل الحرب إلى لبنان، مع مواصلة اغتيال قادة حزب الله، ثم وصل للذروة باغتيال سيد المقاومة الشهيد حسن نصر الله، ومعه نيلفورشان.
هكذا صارت الشعرة التي تفصل ما بين الرد الإيراني على اغتيال هنية، ذلك أن الرد على اغتيال نصر الله تكفل به ويتكفل به حزب الله، بمواصلته السير على طريقه، في إسناد غزة، ومنع عودة سكان شمال إسرائيل إلى مستوطناتهم بالقوة العسكرية الإسرائيلية، صار الرد الإيراني يمثل شعرة دقيقة تفصل بين أن يكون رداً، وانتهى الأمر، كما كان حال الرد في نيسان الماضي، وبين أن يتبعه رد إسرائيلي وهكذا تبدأ الحرب بين إسرائيل وإيران مباشرة، بما يفتح الباب واسعاً لحرب إقليمية واسعة وشاملة وطاحنة وحتى طويلة الأمد، أي بين أن يكون الرد الإيراني خطوة على طريق تثبيت معادلة التوازن في الردع ما بين الطرفين، والذي كان على كل حال محور الصراع منذ بضع سنوات، وأخذ المنحى الساخن خلال العام الماضي، وبين أن يفتح الباب للحرب الإقليمية.
ما سيحسم هذا الأمر، أو ما يمكنه أن يكون بمثابة المقص الذي يقطع الشعرة، وكأنها باتت شعرة معاوية، هو الرد الإسرائيلي، وطبيعته الذي هدد به الإسرائيليون فوراً ومباشرة، وفي نفس الليلة، وأول ما يمكن ملاحظته من خبر سيئ هو "تفهم" الأميركيين، الذين لم يعودوا يظهرون الاختلاف الكاذب مع إسرائيل، لدرجة أنهم شاركوا الإسرائيليين بالتهديد بضرب مفاعل نطنز النووي، بقولهم إن ذلك يبقى أحد الاحتمالات، بدلاً من تفهم حق إيران بالرد على اغتيال ضيفها واستباحة أرضها وسيادتها، أما الخبر الجيد، فهو تردد إسرائيل، ومن ثم القول إنها سترد لكن دون أن تفتح الباب للحرب الإقليمية.
أما التهديد الإسرائيلي بقصف المفاعلات النووية الإيرانية، فيوحي وكأن تلك المفاعلات إنما هي في الشارع، أو على ناصية الطريق العام، وعادة لا يكفي التهديد بعمل شيء، بتنفيذه والنجاح في تحقيقه بعد ذلك، لكن من شأن ذلك - لو حصل - أن يعني أن الحرب الطاحنة قد أطلقت، وأن الحرب الإقليمية باتت على الأبواب، حيث ستكون دول عدة ساحات لها، من بينها سورية والأردن، وربما العراق، إلى جانب فلسطين ولبنان، ومن يدري، ربما يشتعل الشرق الأوسط كله، بدخول قوى لا تزال نائمة، فيما على الأغلب أن دولاً كبرى على الصعيد الكوني لن تظل تراقب من بعيد فقط.
لكن حتى لو اندلعت الحرب الطاحنة بين إسرائيل وإيران، فإن حرباً إقليمية بأبعاد كونية لن تقع، لأن ذلك يعتمد على الموقف الأميركي، فإن اكتفت أميركا بدعم إسرائيل بالسلاح والعتاد، دون مشاركة قواتها في الحرب، فإن الحرب يمكن أن تظل في إطار القدرة على احتوائها، لكن في حال تورطت أميركا بالمشاركة فعلياً ورسمياً، وهذا أمر يعتمد على ما سبق للإدارة الأميركية أن حددته لإسرائيل، كفاصل بين مشاركتها من عدمها، وهو كيفية اندلاع الحرب، فإن أطلقت بمبادرة إيرانية شاركت فيها، وإن بدأتها إسرائيل فلن تشارك، لهذا فقد حرصت إيران كثيراً على التمنع عن الدخول مباشرة في احتكاك عسكري مع إسرائيل، وثانياً في التأكيد على أن قصفها لإسرائيل، جاء رداً "وإن كان متأخراً" على اغتيال هنية على أرضها، ثم ثالثاً، كما هو حال حزب الله، استهدفت صواريخها مواقع وقواعد عسكرية، ولم تستهدف لا مدنيين ولا منشآت مدنية أو حيوية أخرى.
على ذلك فإن إسرائيل التي تتحرق منذ وقت طويل للدفع بأميركا للدخول في حرب بالنيابة عنها مع إيران، وهي تلوّح باستهداف المنشآت النووية الإيرانية، ترغب في الخروج من نفق الحرب طويلة الأمد، متعددة الجبهات، وهي مجرد أن تشعر للحظة باحتمال نجاحها بزج الأميركيين في أتون تلك الحرب، لن تتردد لحظة واحدة، لذا فهي قد تقدم فعلاً على استهداف المناطق التي توجد فيها المفاعلات النووية الإيرانية، لتقصف تلك المناطق حتى وهي تعلم أنها لن توقع فيها الضرر البالغ، وذلك لإجبار إيران على إطلاق الحرب، بعد أن ترددت وصبرت على اغتيال هنية ونصر الله، وردت رداً محسوباً بدقة بالغة، وهكذا يتضح أن النقطة الأضعف بالنسبة لإسرائيل هي أميركا وليست إيران ولا حتى لبنان ولا غزة، فحيث ما زال هناك احتمال لنجاحها في زج أميركا بحرب مع إيران، ستظل تواصل الحرب في غزة ولبنان.