مر عام على بدء حملة الإبادة الإسرائيلية في غزة، الجريمة التي لم تقتصر على القطاع وحده، بل امتدت إلى الضفة الغربية ولبنان، وترافقت مع تكثيف المستوطنات غير القانونية. توضح هذه الحملة أبعاد المشروع الكولونيالي الإسرائيلي، الذي لا يكتفي بفرض السيطرة العسكرية فحسب، بل يتجه إلى خلق شرق أوسط جديد قائم على تهميش الحقوق والقيم وإعادة رسم الخريطة السياسية بما يخدم الأهداف التوسعية والهيمنة الإسرائيلية.
منذ بداية العمليات العسكرية، استخدمت إسرائيل مختلف الوسائل غير المشروعة من استهداف للمدنيين وتدمير للبنية التحتية الفلسطينية، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية. وكانت النتيجة حملة تطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني، شملت تهجير السكان وفرض حصار خانق وتحويل المدن والقرى الفلسطينية إلى جيوب معزولة، خاضعة لسيطرة إسرائيلية مشددة. هذا النهج يعكس استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى سحق الإرادة الفلسطينية واستمرار السيطرة المطلقة بالقضاء علئ حق تقرير المصير الفلسطيني من خلال التهجير وضم الارض، التي تمهد للمزيد من السيطرة الإقليمية.
في يوليو ٢٠٢٤ أصدرت محكمة العدل الدولية رأيًا استشاريًا بشأن قانونية الاحتلال الإسرائيلي، واعتبرت أن الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات غير قانوني واوصت بضرورة أنهائه خلال ١٢ شهر. هذا الحكم الدولي يُعد خطوة هامة في سبيل تحقيق العدالة الدولية، ولكنه يفتقر إلى التنفيذ في ظل غياب الإرادة الدولية الكافية لوقف افلات إسرائيل من العقاب .لم تستجب إسرائيل، بل استمرت في عملياتها العدوانية التي تتجاوز القانون الدولي، وتتمادى في استخدامها لما يمكن تسميته بـ"الإرهاب الدبلوماسي"، حيث تحاول إسكات الأصوات العالمية التي تنتقد سياساتها. وعلى سبيل المثال، كان إعلان إسرائيل اعتبار الأمين العام للأمم المتحدة شخصًا غير مرغوب فيه، تجسيدًا لهذا الإرهاب الدبلوماسي، وتهديدًا لكل من يجرؤ على فضح انتهاكاتها.
بعد السابع من أكتوبر, تم توثيق حقيقة ان إسرائيل تمارس إرهاب عسكري وإرهاب دبلوماسي, الامر لا يتعلق فقط بالاحتلال العسكري الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه, بل تعدا ذلك لطبيعة العلاقة بين دولة إسرائيل والمنظومة الدولية بأكملها. المشروع الكولونيالي الإسرائيلي لا يتوقف عند حد السيطرة الجغرافية، بل يسعى إلى فرض نظام أيديولوجي يتجاهل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني ويتجاهل كافة المواثيق والقوانين الدولية أي هناك إشكالية حقيقية في التعامل مع إسرائيل كعضو طبيعي في هذه المنظومة. إسرائيل، من خلال وسائل الإعلام ومنظمات الضغط، تحاول تشويه صورة الانتقادات العالمية لممارساتها، وتتهم كل من يعارض سياساتها بمعاداة السامية. هذا التوظيف للتهم الزائفة هو استراتيجية لتجنب المساءلة القانونية، وحماية مشروعها الاستعماري الذي يهدف إلى طمس الهوية الفلسطينية..
مع مرور 76 عامًا على الاحتلال العسكري، ومرور عام على حملة الإبادة في غزة، يصبح واضحًا أن إسرائيل تمارس سياسة الإبادة بطرق ممنهجة ومتواصلة، بدعم غير مشروط من بعض القوى العالمية وعلئ راسها الولايات المتحدة التي وفرت الغطاء القانوني والمادي والعسكري والاستراتيجي لجرائم الحرب الموثقة. هذه السياسة تتحدى النظام الدولي وقوانينه، وتدعو المجتمع الدولي لمراجعة ذاتية بما يخص مؤسساته واليات اتخاذ وانفاذ القرارات والتطبيق العادل والمتساوي للقانون الدولي علئ كافة أعضاء المنظومة بحيث تغلب قوة المنطق منطق القوة والا فقد فشل هذا النظام الدولي بشكل معيب امام الانسانية بعدم تبني موقف حازم لوقف هذه الجرائم وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني ومحاسبة اسرائيل.
منذ أكتوبر 2023، شهد العالم تحولات جذرية على الصعيد السياسي والدبلوماسي، خاصة فيما يتعلق بالشرق الاوسط، حيث أُدينت إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة بحق الفلسطينيين، مما أعاد الأزمة إلى صدارة الاهتمام الدولي. على الصعيد العربي، تزايدت الضغوط الشعبية على الحكومات لإعادة النظر في سياسات التطبيع، في حين شهدت السعودية موقفًا لافتًا بتمسكها بمبادرة السلام العربية وبإصرارها على ربط أي تطبيع مع إسرائيل بتأسيس دولة فلسطينية مستقلة. في المقابل، تكوّنت تحالفات دولية جديدة لدعم حل الدولتين، بقيادة المملكة العربية السعودية ودعم عدد من الدول الأوروبية، مما أضاف زخمًا جديدًا للمطالبة بالحقوق الفلسطينية. هذه التحولات تعكس تزايد وعي المجتمع الدولي بضرورة حل عادل وشامل، بعيدًا عن سياسات الهيمنة والإملاءات، وتركز على احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان.
أكتوبر 2023 شكل نقطة تحول في نظرة العالم إلى ما يمكن تسميته بالكولونيالية الجديدة او الاستعمار الحديث بإطار براغماتي، حيث تكشفت أبعاد سياسة إسرائيل الاستيطانية والتوسعية في فلسطين والمنطقة بوضوح أكبر. هذه السياسة، التي تتبنى أدوات مختلفة من الهيمنة العسكرية والاقتصادية إلى الضغوط الدبلوماسية، تهدف إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفق رؤى توسعية تحقق مصالح إسرائيل وتغيب العدالة للشعب الفلسطيني. ما يحدث اليوم هو امتداد للنظام الكولونيالي بصيغة أكثر براغماتية؛ حيث تستفيد إسرائيل بحجة الامن من علاقاتها الدولية ومن دعم قوى عظمى لضمان استمرار احتلالها وفرض سيطرتها على الأرض الفلسطينية من دون عقوبات جدية من المجتمع الدولي. في هذا الإطار، يبرز الدور العربي والدولي في محاولة الضغط لتحقيق حل الدولتين، لكن بشكل محدود وغير كافٍ لكبح جماح الكولونيالية المتجددة. المقاربة البراغماتية هذه لا تقتصر على إسرائيل وحدها، بل تمتد إلى سياسات العديد من الدول التي تتبع مصالحها الخاصة على حساب العدالة الدولية وحقوق الشعوب، مما يجعل الحاجة ملحة لتحرك فلسطيني وطني موحد لمواجهة الكولونيالية الحديثة ومنع تكريسها كأمر واقع.