في الصراع مع إيران ثمة لاعبون آخرون غير الأطراف الثلاثة المركزية طهران وتل أبيب وواشنطن، وهنا أشير تحديداً لموسكو والرياض؛ أي روسيا والسعودية.
فلأسباب مختلفة فإن للدولتين موقفاً لا يمكن تجاهله، وربما في حالة السعودية فإن التطلعات السعودية وما تراه من طبيعة الصراع سيكون أمراً مهماً يمكن تطوير مواقف مختلفة وفقه. والطرف الذي يستطيع أن يطور هذه المواقف من أجل خلق التوازن هو بطبيعة الحال الطرف الروسي، وأيضاً لغايات مختلفة.
سيكون مثيراً مثلاً أن تقوم موسكو بتعزيز التقارب السعودي الإيراني ونزع فتيل أي توتر بين الطرفين حتى لا تقوم تل أبيب بمواصلة استخدامه مثلما تفعل حيث تقدم نفسها بوصفها جزءاً من صراع مذهبي في الشرق الأوسط تنحاز فيه إلى طرف ضد طرف آخر، فيما لا يمكن للشيطان أن يصدق ذلك.
عموماً لا أحد يعرف أين سينتهي الصراع في ظل وجود مؤشرات محتملة على رد إيراني متوقع، أيضاً لا يمكن الجزم بوقوعه، كما لا يمكن الجزم بطبيعة الرد الإسرائيلي، حيث من المتوقع إذا تم الرد الإيراني أن ندخل في مرحلة استنزاف بطيئة الإيقاع ضمن الجهود الأميركية لاحتواء الصراع.
والاحتواء الذي أشرنا إليه على هذه الصفحة في المقال السابق ستكون سمته ضمان عدم التصعيد للحد الذي تخرج فيه الأمور عن السيطرة وتقود إلى اندلاع حرب إقليمية قد تكون مقدمة لحرب كونية.
ولكن مع توقع مثل هذا الرد والحديث المطول عن احتمالية وقوعه ونقاشه في الإعلام، فإن المؤكد أننا لسنا بصدد حرب كبيرة، بقدر إصرار على الحفاظ على إيقاع الحرب الدائرة بما يمّكن كل طرف من مواصلة ادعاءاته حول ما يقوم به.
تذكروا كيف أن إسرائيل أخذت وقتاً طويلاً لتحضير ردها وتمت مناقشة الرد وطبيعته وكميته ونوعيته وتوقيته في وسائل الإعلام للدرجة التي صار الأمر يبدو منسقاً بشكل أو بآخر بالنسبة للبعض.
نفس الشيء حدث قبل الرد الإيراني بالمسيرات والصواريخ الباليستية حتى أن توقيت إطلاق المسيرات كان معلناً في الأخبار قبل وقوعه.
ما أقصده أن وقوع رد إيراني سيكون ضمن هذا النسق الذي تتم مناقشته حتى في الإعلام. وهذه ليست القضية الأساسية هنا بقدر الحاجة للتأكيد على أن استمرار الصراع يبدو هو الغاية من الصراع، العملية أهم من النتائج لأن لا نتائج متوقعة منها، فالجميع يريد أن يحافظ على وتيرة الصراع. لذلك فإن الرد الإيراني إن وقع، وهذا غير متحمل بقدر احتمالية وقوعه، لن يخرج عن قواعد ما تم في السابق، والأمر نفسه سينحسب على الرد الإسرائيلي الذي سيتلوه.
ما أرمي إليه هنا أن طبيعة النقاشات التي تجري قبل وعقب كل قصف متبادل تعكس فهماً خاصاً بالصراع هو جوهر ما قلنا عنه من النزعة الاحتوائية، خاصة مع تولي إدارة أميركية جديدة سيكون لها رأي مختلف في كل ما يجري.
ولكن الإصرار على استمرار الصراع لا بد أن يكون جزءاً من نزعة إسرائيلية تخدم مصالحها في المنطقة. فإيران الخطر والتهديد يجب ألا تنتهي، بل يجب أن يتم تعزيز التصور عن مدى خطورة إيران خاصة وهي تسعى لامتلاك قنبلة نووية، بحيث يتم تصوير هذه القنبلة بأنها تهديد وجودي للعرب خاصة للسعودية مع تعظيم الصراع المذهبي وجعله فاصلاً بين الحق والباطل.
لذلك فإن تل أبيب ربما لن تكون معنية بإنهاء الصراع مع إيران بشكل حاسم والتخلص من العبء الإيراني في المنطقة، بقدر رغبتها في أن يظل شبح البعبع الإيراني يرعب العالم السني الذي يجب أن يجد في استمرار تمسكه بتطلعاته للتعايش مع تل أبيب هدف حياة من موت.
لذلك فإن تل أبيب ترى في وجود إيران دافعاً للسعودية للاقتراب أكثر من تل أبيب.
صحيح أن ثمة عوامل أخرى ترغب تل أبيب في أن تكون دافعاً في خلق هذا التقارب خاصة إذ جاء ترامب للبيت الأبيض، لكن دائماً وأبداً من الأفضل أن يكون الخوف من الشبح الإيراني هو الدافع لهذا التقارب.
ورغم أن إسرائيل تبدو أكثر هشاشة من أن تحمي نفسها، إلا أنه يتم تصوير الأمر على أنه مصلحة مشتركة. لذلك فإننا يمكن تخيل استمرار الصراع بين تل أبيب وطهران دون حسم بشكل نهائي.
لذلك فإن اللاعب الآخر موسكو يمكن أن يكون لها دور مختلف في كل هذا النقاش من جهة تعزيز التقارب بين الرياض وطهران على قاعدة الثقة المتبادلة والمصالح المشتركة في أكثر من مجال.
وفي هذا لا بد من النظر بجدية لوجوب تطوير قنبلة نووية عربية مشتركة ربما بين أكثر من دولة في هذا يمكن لموسكو أن يكون دروها كبير في تعزيز هذا الفهم بأن وجود السلاح النووي في كل طرف يعزز ولا يهدد الطرف الآخر.
وسنتذكر حينها كيف لأي طرف سيسعى لتطوير سلاح نووي عربي أن يصبح الخصم الأول لتل أبيب دون تردد.
فقط موسكو يمكن أن تقوم بهذا الدور أيضاً حماية لمصالحها في المنطقة العربية وفي شرق المتوسط في ظل تفاقم الصراع بينها وبين الغرب إثر حرب أوكرانيا.
وفيما قد تنتهي الحرب إلا أن الصراع بين روسيا وبين الغرب لن ينتهي بسهولة، وعليه فإن مصلحة موسكو، اللاعب الغائب في الصراع بين طهران وتل أبيب، أن تخلق هذا التقارب وتعمل على تطوير فهم مختلف لطبيعة المصالح في المنطقة بين أقطابها المختلفين، فأي صراع وحرب حقيقية ستجر بالضرورة معها موسكو للتدخل ضمن نطاقات مختلفة من المساعدة والتسليح، ما سيكون مرهقاً أيضاً لها في ظل حربها مع أوكرانيا.
الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو، لكن الحلول ليست صعبة مع ذلك.