صحيحٌ أنّ الضغوط على الدولة القطرية والهادفة إلى «إخراج» قيادات حركة حماس إلى خارج حدودها ليست جديدة، وصحيح أنّ كل المحاولات التي سبقت الأيّام الأخيرة من الضغوط الجديدة، والمتجدّدة قد فشلت لأسباب كثيرة، ومن أهمّها على الإطلاق هو أنّ الدولة القطرية كانت تواجه مثلها استناداً إلى طلب أميركي «سابق» «بإبقاء» قيادة «حماس» في العاصمة القطرية، أو جزء منها على الأقلّ، إلّا أنّ الأمر على ما يبدو هذه المرّة مختلف من زاوية إلحاحية الطلب الأميركي، ومن زاوية درجة معيّنة من الاستجابة «الأوّلية» القطرية حسب النصّ الذي نُسب إلى مصادر رسمية في قطر.
غاص الإعلام العربي مثل العادة في مياه الإعلام الإسرائيلي وفي مياه الإعلام الأميركي الذي هو بدوره يغوص في كل مياه طالما كانت صهيونية أو إسرائيلية إلى درجة أنّنا لم نعد نفهم فيما إذا كان «الطلب» الأميركي الملحّ قد جاء برغبة بايدن، أم هو استجابة مسبقة، ومستعجلة لرغبات قُرئت من الدولة القطرية كـ»عربون محبّة» للقادم الجديد إلى البيت الأبيض.
أغلب الظنّ أنّ الأمر يتعلّق بطلبٍ مباشر من إدارة بايدن، وكنوعٍ من العقوبة للنظام القطري على ما أُشيع عن دورٍ لدولة قطر في التأثير على التصويت العربي في الانتخابات الأميركية، بل التصويت الإسلامي، أيضاً، وأنّ هذه العقوبة ليست من أجل خدمة مصالح بنيامين نتنياهو ــ كما يبدو للبعض ــ وإنما على العكس من ذلك من أجل «تشجيع» هذا الأخير على إبرام صفقة في قطاع غزّة، وتصوير ذلك كأحد مظاهر الانتصار الإسرائيلي من بين مظاهر أخرى لإنضاجها.
وإذا كان الأمر كذلك ــ وأظنّه كذلك ــ فليس لترامب علاقة مباشرة بهذا الأمر، والذي يهدف له بايدن هو «إنجاز» الصفقة قبل تسلُّم ترامب لمقاليد الحكم، ومن أجل «حرمانه» من الادعاء بأنّ هذه الصفقة قد أُنجزت في أيام عهده الأولى، والأمر على ما يبدو لن يقتصر على صفقة التبادل، وإنما سيمتدّ إلى وقفٍ لإطلاق النار على جبهة جنوب لبنان، إمّا بصورةٍ فورية وأوتوماتيكية على اعتبار أنّ المقاومة الإسلامية اللبنانية «حزب الله» ستوافق فوراً على تزامنٍ من هذا النوع، أو بسبب أنّ دولة الاحتلال معنية بهذا التزامن تحديداً خوفاً وهروباً من الالتزامات التي تترتّب، أو ستترتّب على التطبيق المتوازن للقرار 1701، والهدف الأبعد في استهداف بايدن من هذا كلّه هو حرمان ترامب من «التحكّم» بمفاتيح التقدم نحو تسويات كبيرة في الإقليم، وذلك لأنّ وقف إطلاق النار سيؤدّي حتماً إلى تحويل «الرصيد» كلّه للحزب الديمقراطي، وليس للإدارة «الجمهورية»، وإلى إجبار الإدارة الجديدة على السير في طريق للترتيبات الإقليمية هي ليست، ولا تشكل جزءاً من رؤية ترامب لهذه الترتيبات.
إدارة بايدن تعرف حقّ المعرفة أنّ العملية البرّية في جنوب لبنان قد أخفقت، وتعرف أنّ الحديث عن استنفادها لأهدافها ليس سوى دعاية إسرائيلية فارغة، وتعرف أنّ وجهة النظر التي يطرحها جيش الاحتلال الإسرائيلي في الكواليس هي أنّ لا أهداف، لا في قطاع غزّة، ولا في لبنان باتت قابلة للتحقيق، وأنّ التوقّف هنا هو السبيل الوحيد قبل الدخول في «نفق الاستنزاف المظلم والطويل»، والذي سيؤدّي حتماً إلى ضربات إيرانية إسرائيلية متبادلة، قد تصل إلى الضربات التدميرية، وإلى اندلاع ما هو أكبر وأخطر من الحرب الإقليمية.
إدارة بايدن تعي كلّ ذلك، وتدرك كل أبعاده، وهي خلال هذين الشهرين متأكّدة من أن نتنياهو لن ينصاع لهذه الرؤية، بل إنه سيحاول زيادة الضغط والتصعيد ما سيجعل ترامب في ورطة لا يُحسد عليها.
فمن ناحية لا يستطيع التصدي لنتنياهو، ولا لجموحه وهيجانه، وهو من ناحية أخرى سيتورّط معه في حرب لا يتمكّن من السيطرة عليها قبل عدّة شهور من تسلّمه لصلاحياته الدستورية، وبذلك يكون نتنياهو أجبره على السير في خطته التي لا طريق أمامها سوى استمرار التصعيد، والوصول إلى الحرب الكبرى، وذلك لأنه لم يعد أمامه سوى هذا الطريق في مواجهة عدم قدرة دولة الاحتلال على الانتصار، لا المطلق، ولا غير المطلق، وهو يواجه أزمة داخلية لم تعد مجرّد استحالة حصول ائتلافه الفاشي على الأكثرية التي تتيح له فرصة الفوز الجديد في الانتخابات، إذا ما فرضت عليه، وإنّما استحالة درء مخاطر الفضائح المتتالية التي باتت تلاحقه هو شخصياً، ومكتبه بكلّ أفراده وطواقمه، كما باتت تهدّد أعوانه المباشرين مثل إيتمار بن غفير، وربّما بتسلئيل سموتريتش، وغيرهما، كما تشير بعض الشذرات الجديدة عن ملفات لا يعرف أحد حتى الآن كيف فُتحت، ومن الذي فتحها، ولماذا الآن، وما الهدف الحقيقي من فتحها في هذا التوقيت؟
هل تكون المخابرات الأميركية وراء كلّ ما يتم الكشف عنه تباعاً في دولة الاحتلال، أم أنّ ذلك يتمّ بالتنسيق بين هذه المخابرات وبين كواليس جيش الاحتلال، ومن داخل الغرف المغلقة لجنرالاته؟
وهل بدأت معركة الجيش «الخفيّة» بينه ومعه بعض أذرع الأمن، بما في ذلك «الشاباك» نفسه، أم أنّ هذه المعركة قد بادرت إليها الدولة الأميركية العميقة، ودور الجيش ليس سوى الشريك من الباطن فقط؟
الذي يجري على ما أظنّ هو خطّة الدولة العميقة من أجل «التخلُّص» من نتنياهو في الأشهر القليلة القادمة لحرمان ترامب من «شرف» ادّعاء امتلاكه لمفاتيح الحلول، وحرمان «اليمين الفاشي» في دولة الاحتلال من حضن الدولة الأميركية العميقة، ومسألة «إخراج» قيادات «حماس» من قطر مجرّد تفصيلة صغيرة من تفاصيل القراءة الأميركية للحالة الإسرائيلية الجديدة.
الدولة الأميركية العميقة هي صاحبة وراعية وحامية المشروع الصهيوني للدولة العبرية، والترامبية هي صاحبة وراعية وحامية دور الدولة الإسرائيلية نفسها، وليس دورها الشامل، لأنّ الدور الشامل هو من اختصاص أميركا، ويعود للاعتمادات الأميركية، لا لغيرها ترتيب الأوراق، ووضع الأولويات، وليس بالضرورة وفق نهج ورؤية أحد مهما كان شأنه بما في ذلك دور الفاشية في دولة الاحتلال.
يبدو هذا المنطق بالنظر إلى مظهره الخارجي وكأنّه متناقض، وهذا صحيح نسبياً، لأنّ هناك ما يكفي من التناقض بين أن تكون الأولوية لنهج العولمة التي تسير عليها، وسارت عليها إدارة الحزب الديمقراطي، وبين نهج «الأمركة»، وتحويل نظام أولويات السياسة في الولايات المتحدة لحسابات «العظمة» الأميركية بدلاً من السياسات للدور العظيم لها على الصعيد الكوني، وهو النهج الترامبي.
النهج الأوّل كما الثاني هو نهج قاتل وإجرامي، ومن العبث السياسي أن نحتار بينهما، وأن نُفاضل بين ما يمثّلانه من خطر على شعبنا وعلى أمّتنا كلها، وعلى السلم العالمي والديمقراطية، وحق الشعوب في السيادة والاستقلال الوطني، واختيار طريق التطوّر، والحق في تقرير المصير.
ومن العبث أن نواصل هذه السذاجة في إيجاد الفوارق بين السمّ القاتل والسمّ المميت.