في ظل شح السلع الأساسية واحتكار التجار لها، المجاعة تُهدد جنوب القطاع كما شماله، حيث للشهر الثاني على التوالي مازال جنوب القطاع يُعاني من شح السلع الأساسية وإن وجدت تجدها بعشرة أضعاف السعر المضاعف لها عن قبل الحرب وذلك بفعل إجراءات الباعة والتجار، ويعزف المواطن عن شراء السلع الأساسية مكرهاً، فكيف له أن يشتريها وجيبه فارغاً من أيّ أموال يُمكن أنّ تُعينه على هموم الحياة في ظل حرب إبادة طويلة استمرت لأكثر من عام وما زالت في كل يوم أكثر قسوة ودموية عن اليوم الذي يسبقه.
يعود جنوب القطاع ووسطه بكل النازحين المتواجدين فيه والذين يُقَدر عددهم بأكثر من مليون ونصف نازح إلى شبح المجاعة الذي طال جميع مناحي حياته فلا غذاء ولا دقيق يمكن أن يُسكت جوع الأطفال الذين يطلبون أبسط حقوقهم من الغذاء والماء النظيف ولا يجدونه.
وتعود أصابع الاتهام إلى التجار المحتكرين وخصوصاً بعد أنّ قام الاحتلال باستئناف إدخال المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم تضمنت السلع الأساسية كالدقيق وزيت القلي وحليب الأطفال والأرز والسمك المجمد واللحوم والدجاج والخضار والفواكه وغيرها من السلع الأساسية التي غابت عن بسطات الباعة، والأغطية والملابس الشتوية للمؤسسات العاملة في القطاع وبعض التجار الذين دخلت إليهم الكثير من الأصناف والسلع الغير مذكورة سابقاً، فعدا عن سرقة بعض الشاحنات من قبل لصوص متمركزين على شارع صلاح الدين وهو خط سير تلك الشاحنات إلا أنّ معظمها يتوجه إلى بركسات ومخازن التجار والمؤسسات، ولا يخرج للمواطن إلا بعض منها وبسعر خيالي فوق قدرة المواطن الشرائية، وحتى بعد الإجراء الجديد الذي قام به الاحتلال وهو تغيير خط سير تلك الشاحنات، وإدخالها عن طريق معبر فيلادلفيا باتجاه الغرب وصولاً لمخازن المؤسسات الدولية والتجار بعيداً عن أيدي وأعين اللصوص، إلا أنّ المواطن لم يلمس أيّ تغيير على حركة الأسواق والأسعار، بل بالعكس ازدادت الأسعار أضعاف ما كانت في السابق.
مواقع التواصل الاجتماعي ضجت بعباراتٍ ومبادرات وأفكار تُوجه المواطن للتمرد والوقوف بوجه المستغلين، من قبل المؤثرين والصحفيين خارج القطاع وداخله بالإضافة للمواطن الذي ضاق ذرعا من الوضع القائم ولعل من أبرز الأفكار التي طرحت هي العزوف عن شراء السلع بسعرها المرتفع فتظل بوجه البائع حتى تفسد ويُعيدها للتاجر، والفكرة الأخرى هي إغلاق المحلات والأسواق لكي لا يكون هناك بيع وشراء على حساب المواطن، والخطوة التي تلتها كانت عبارة عن خروج المواطنين باتجاه بركسات ومخازن التجار التي حددها هؤلاء النشطاء للتوجه إليها واقتحامها عنوة وأخذ كل ما يحتاجونه منها رغماً عن أنف هؤلاء التجار الذين تكاثفوا مع العدو في تجويع المواطن وقتله بشكل أكثر قذارة وخسة، وهذا ما حدث فعلاً فقد تطوع عدد من الشباب الحر لإغلاق الأسواق بوجه التجار والبائعين لكي لا تتضخم ثروتهم على حساب الجياع من أبناء شعبنا الصامد الصابر، وهذا ما دفع ببعض التجار للاتصال ببعض المحلات والباعة في وسط وجنوب القطاع ليبيعوا لهم بضاعتهم بسعر الجملة لكنه قوبل بالرفض من قبل الباعة وأصحاب المحلات الشرفاء الذين أبوا أن يكونوا سيفاً مسلطاً على رقاب أبناء شعبهم واختاروا الوقوف بجانبهم ، وحتى الخطوة التي تلتها فقد كاد هؤلاء الشباب أن يسلكوها لولا وجود بعض العراقيل التي ستواجههم في حال توجهوا لمخازن التجار منها وقوف المسلحين والملثمين في وجههم أو إفراغ تلك المخازن من البضاعة ونقلها لأماكن مجهولة وهذا ما حدث فعلاً وتم إفراغ بعضها لكي لا يتم مداهماتها من قبل التجار، ذلك الحراك الشبابي أُطلق عليه عبر مواقع التواصل الاجتماعي بـ"ثورة الجياع" والتي مازالت قائمة بأفكار شباب يتصدون لتجار الحروب واللصوص الذين تكالبوا على أبناء شعبهم بجانب الاحتلال في حربه.
المقايضة تطفو على السطح
نظراً لشح المواد الغذائية والصحية وغيرها لجأ المواطنين إلى عرض ما لديهم عبر صفحاتهم ويطلبون ما يحتاجون إليه مقابل ذلك وهو ما يعرف بنظام المقايضة، وقد وجد هذا النظام قبل مئات السنين حين كان أجدادنا يعرضون على سبيل المثال لا الحصر قصعاً من القمح مقابل قصعاً من الأرز، ويرجع سبب ظهور ذلك النظام في هذا الوقت لعدم وجود العملات المعدنية عند الشريحة الفقيرة بالإضافة إلى أن الناس قديماً كانت متطلباتهم بسيطة وأساسية ولم ينفتحوا على العالم مثلما وصل الحال بنا حديثاُ، أما لماذا عاد ذلك النظام مرة أخرى لوقتنا الحالي فظروف الحرب وإغلاق المعابر وعدم توفر السلع الأساسية ساهمت في لجوء المواطن له.
وكالة "خبر" استطلعت بعض منشورات المقايضة التي نشرها المواطنين وكانت كالتالي:
ورأى مواطنون أن الحملة التي أطلقها البعض لم تُجدي نفعا بل جاءت بنتائج عكسية تمثلت بارتفاع السلع أكثر من قبل وكأن التجار يقولون لهم بأن زمام الأمور في أيدينا مع وجود جهة خفية مسلحة أكبر منكم تحمينا ولن تستطيعوا تنفيذ مخططاتكم.
مراسلة وكالة "خبر" وعلى مدار أيام تابعت أحوال الأسواق والمواطنين والتقت بهم، حيث لمست ارتفاع أسعار كافة السلع بعد الحملة، حيث قال المواطن "منير" الذي يقف بجانب إحدى البسطات يقول بغضب: "والله ما بعرف كيف ربنا بده ينصرنا مجموعة من اللصوص والتجار والأرزقية متحكمين بمصيرنا،لا قادرين عليهم ولا عارفين نوقفهم عند حدهم، كل الطرق مش ماشية عليهم بل بالعكس كروشهم بتكبر أكثر وأموالهم بتزيد وبطُلوا بعدها بروسهم ببعض السلع الي هما عارفين ومتأكدين انه احنا محتاجينها وبنبحث عنها وبنزلوها بأضعاف سعرها إن كان مش عاجبنا ما نشتري !!".
وتابع: "يعني مثلاً الثومة كانت قبل فترة بسيطة الـ4 حبات منها بـ8 شيكل، لكن اليوم الحبة الوحدة وصلت بـ10 شيكل والتفاح المفروض الاقتصاد نزل سعر الكيلو منه بـ9 شيكل، لكن نزلت الحبة الوحدة بـ9 يعني بيوصل سعر الكيلو منه حوالي 40 شيكل والبندورة والبطاطا والبصل من المحرمات ما بنشتريهم، إذا كنا مضطرين بنشتري مثلاً حبة بصلة وحدة على الميزان للطبيخ وللاستخدام مرة وحدة"، لافتاً إلى أن أسعار السلع بعد ثورة الجياع تضاعفت كثيراً وبات لا حسيب ولا رقيب عليها.
"نفسنا بكوباية شاي"
خديجة حمادة، تقول: "اشتهينا كوباية شاي بالسكر، صارلي يومين بلف في الأسواق على كيلو سكر مش ملاقية، يعني التجار الفجار أخفوا السكر عنا وبعض من أذنابهم البياعين مرات بيطلعوا أكم من كيلو للبيع بـ50 شيكل للكيلو الواحد، بعد ماكان الكيلو بـ5 شيكل، وكيس الطحين المسوس والمدود بـ130 شيكل، ويعتبر الدقيق من السلع الأساسية في غزة، فالدقيق إن وجد لا يهم المواطن ما سيأكل معه المهم أنه يُسكت جوع الصغار أما بعض السلع الأخرى يمكن أن يستغني عنها في طعامه".
أم محمود، تقول أيضاً: "كيس الطحين المسوس والمدود بطلبوا فيه من 150 لـ 200 شيكل وما في بالأسواق، ما في عند أولادي ولا ذرة طحين أطعميهم صارلنا أسبوعين بندور وما في، عايشين على التكية الفاصوليا والعدس بياكلوهم بالمعلقة وأولادي ما بيشبعوا منها بدهم خبز، وتوجهت للوكالة أسألهم إذا في تسليم الدورة الرابعة للطحين لكن للأسف أجابوا إنه ما في حالياً وأن التسليم الحالي للدورة الثانية والثالثة لمن لم يستلم، فاضطريت للوقوف بجانب مقر التوزيع التابع لوكالة الغوث وكل ما أشوف شخص استلم طحين أطلب منه شراء كيس لكن يطلب به سعر مبالغ فيه، وأنا ما معي أشتري في هذا السعر شو أعمل، إذا المواطن الي مثلي مثله وشاف الويل وبيرفع السعر هيك مع إنه مستلمه مجاناً، وبالآخر بيقولي بدي أصرف من حقه على أولادي!".
رفعوا ثمن السمنة لما زاد الطلب عليها
اعتدال وهي أم لسبعة أطفال، تقول: "أي طبخة لا تقوم إلا على زيت القلي وللأسف اختفى الزيت من السوق فلجأنا إلى استخدام السمنة بديلاً عنه وحين رأى التجار مدى احتياجنا له قاموا برفع سعرها من 13 شيكلاً إلى 50 شيكل للعلبة الواحدة، ولا ندري ماذا سنفعل لا خضار موجود في السوق لنشتريه بسعر معقول ولا مواد أساسية وإن وجدت تكون فوق احتمالات قدرتنا الشرائية".
التفاحة الواحدة بـ9 شواكل
عبَّر مواطن آخر عن استياءه حين رأى طفله الصغير حبات التفاح في السوق وهو معروض، ويقول لمراسلة وكالة "خبر": "ابني شاف التفاح نزل السوق فرح وانبسط وطلب مني أشتري تفاح، طبعا أنا غير قادر على شراء تفاح ولا حتى حبة بندورة، لكن مشان ما أكسر بخاطره قلت أجيبله حبة يفرح فيها، وعند ما البياع أخذها على الميزان كان سعرها 9 شيكل!!، من الصدمة ما عرفت شو أقول وما معي بجيبتي غير 3 شيكل وكان أملي أجيبله وحدة بما تبقى معي من مال، ولما طلبت منه يعطيني إياها بالثلاثة شيكل الي معي رفض وما رضي وكسر بخاطر ابني بحجة إنه شاريها بسعر غالي وما بتوفي معه، فرجعت على خيمتي ودمعة ابني على خده ونفسه بالتفاحة".
وأكمل: "زي ما بتحاربوا بالتجار، حاربوا البياعين لأنهم أذيال التجار وهما الي مقويين عين وجشع التاجر علينا، ما حدا يشتري منهم ولا يقرب من بسطاتهم لما تعفن ويرجعوها للي متلهم من التجار".
وأضاف: "زمان كنا نقول بنوجه رسالتنا للمسؤول والمسؤول كان حرامي أكثر من التجار اليوم بوجه رسالتي للناس الشريفة الي عندها ضمير ومعهم فلوس وقادرين يشتروا، إنهم مايشتروا وما يساعدوا هذه الفئة في مص دمائنا، لأنه إذا هو وغيره اشترى منهم بيستمروا باستغلال باقي الناس الي ما معها تشتري الأكل".
يُذكر أنَّ جنوب قطاع غزة مُشرف على مجاعة حادة إذا ما بقي الحال على ما هو عليه من استغلال التجار وإغلاق المعابر، فالحال سيكون أكثر مأساوية من الشمال نظراً لتكدس مليوني نازح في وسط وجنوب القطاع وهي بقعة صغيرة ضيقة وفي ظل انعدام أبسط مقومات الحياة.