إرهابي، وحاصل على جائزة نوبل للسلام!

تنزيل (6).jpg
حجم الخط

بقلم توفيق أبو شومر*

أُتيحت لي فرصةُ أن أكون ملازماً للسياسي المحنّك، وأستاذ فنّ العلاقات العامّة، ياسر عرفات، سنةً كاملةً، في مقرّه المؤقّت، المنتدى، في غزة. كنتُ في دائرته الإعلامية الأولى، هيئة الإذاعة والتليفزيون الفلسطينية، وكنتُ- أيضاً- أشارك في صياغة الأخبار لوكالة الأنباء الفلسطينية، «وفا»؛ وهذا مكَّنني من معرفة كثيرٍ من الحقائق عن دبلوماسيته، وآليات تعامله مع الآخرين. كنتُ أرى وجباتِ طعامِه الرئيسةَ، وكنت أجلس قريباً من مكان قيلولته عند الظهيرة، وأتابع خطاباته أمام الوفود، وأرى طريقته في التعامل مع الضيوف.

لم يكن أبو عمار إلّا أنموذجاً للزهد في الطعام والملبس، وحتى مكان النوم؛ فقد كان له سريرٌ متواضعٌ، إلى جواره ثلّاجة صغيرة وبعضُ الألبسة، وكانت غرفتُه تقع خلفَ مكتبه مباشرةً، وهي من طابق واحد فقط، وتشبه- إلى حَدّ كبير- غرفةَ صيّادي السمك، وكانت غرفة البثّ الإذاعي، التي أواظب على وجودي أمامها، تبعد أقلَّ من عشرة أمتار عن غرفة(الصياد، أبي عمار).

اعتدنا أن نسمع خطاباته أمام وفود الزائرين، وكنّا نحفظُها، ونستطيع أن نتنبّأ بمعظم ما سيقوله. كانَ إعجابُ الوفود الزائرة وتصفيقُهم الحارّ في أثناء الخطاب، يدفعاني لإعادة التفكير في جُمَله وتعبيراته، فهو اعتاد أن يُكرِّر، دائماً، أمام وفود الفلسطينيين الصامدين في أرضهم، منذ عام 1948: «أراد المحتلّون الإسرائيليون أن يفصلوكم عن أهلكم، وعشيرتكم، هم لا يعرفون بأنكم أنتم سندياناتُ فلسطين».

كنتُ، قبل أن أسمع هذا التعبير، أستخدمُ الاسم الذي فرضتْهُ إسرائيل، ورسَّختْهُ في الإعلام، عند الحديث عن هؤلاء الفلسطينيين: «عرب 48»، لكنني عدلتُ عن استخدام هذه التسمية، وصرتُ أُسمّيهم «الفلسطينيون الصامدون في أرضهم، منذ عام 1948»،

كُنتُ أرى- أيضاً- آليّات استقباله لزائريه، وطريقة وداعهم، فقد كان ينتظرهم خارج مقرِّه، ويُقبِّلهم بحرارة، ثم يحتضنهم، ويُدخلهم مكتبَه، وكان يصرّ على تناولَ زائريه، من الزعماءِ والمسؤولين، الطعامَ معه، وقد شاركتُ الضيوفَ إحدى الوَجبات، فقد كنتُ ضمن وفدٍ مكوَّنٍ من الأدباء والشعراء، أبرزهم، الشاعر سالم جبران، وكان الحدثُ بعد أيام من عودة أبي عمار من مشاركته في القمّة الإسلامية، في طهران 1997. كانتْ الوجبةُ مكوِّنةً من أسماك الدنيس. قال، وهو يقفُ ويُقرِّب الصحون أمام الضيوف، كما يفعل الفلّاحون الفلسطينيون، حينما يستضيفون أعزّاءَ مقرَّبين، وهو يرسم على وجهه ابتسامة عريضة: تفضّلوا يا إخوتي، سمك دنيس غزة، هو ألذُّ أنواع السمك!

نجحَ في توزيع ابتسامته على وجوه الحاضرين كلّهم، يومها قالَ الشاعرُ سالم جبران: «إنَّ إسرائيل تستخدم نظام المزارع السمكية على الشاطئ، وتزرع أسماك الدنيس، وهي تُصدِّره إلى الخارج». أصغى أبو عمار، بكلّ جوارحه، إلى كلام الشاعر الضيف، ثم قال، وهو ينظرُ إلى مساعديه: موضوع يستحقّ الدراسة! شعرتُ برغبةٍ في التعليق، قلت:

سيّدي الرئيس، نحن بحاجة إلى وزارة بيئة وثروة سمكية، فعالمُ اليوم هو عالم بيئي.

هزَّ رأسَه، ولم يُعلّق. ولكنه، بعد ثلاثة أشهر، عيِّنَ د. يوسف أبو صفية، المتخصّص في العلوم والشؤون البيئية، وزيراً للبيئة.

ما أزال أذكرُ- أيضاً- عندما صفعَ أبو عمار حارساً من طاقم الحراسة، أمام حشدِ كبير من أراملِ الشهداء، ممَّن وقفن أمام بوّابة مكتبه، يطلبْنَ إنصافهن، فقام الحارسُ بدفع إحدى النساء، لمنعها من اقتحام المكتب، ما جعلها تبكي بصوتٍ عالٍ. خرجَ أبو عمار لوداعِ سفيرٍ أجنبي، فرأى المرأة تبكي، وحكَتْ له ما جرى، فقام بصفع الحارس على وجهه، وعنَّفَهُ قائلاً: كيفَ تُهين المناضلات الفلسطينيات الشريفات!

صوتُ الصفعةِ على طرف وجه الحارس، جعل النساءَ يبتلعن ألسنتهن، فسادَ الصمتُ المكانَ، وشخصتْ كل العيون إلى وجْهِه، وطلبَ من حارسٍ آخر أن يُدخِلَ إلى مكتبه وفداً منهن، أما هو، فاقترب من عربة إحدى السيدات، من ذوات الحاجات الخاصّة، ودفعها بيديه نحو مكتبه، إلى أن وصل حارسٌ آخر، وتولّى المهمّة بدلاً منه. خرجتْ النساءُ من مكتبه، وكنتُ أقف بالباب، حينَ سمعتُ زغرودةً انطلقتْ من فم إحداهنَّ، وهي تقولُ للنساءِ اللاتي ينتظرنَ في الخارج: الله ينصرأبو عمار، قرَّر صرفَ كل مستحقّاتنا الماليّة.

اعتادَ رجل الدبلوماسية الأوّل، والسياسي البارع، أن يُعطيَ كلَّ وفدٍ زائرٍ الجُرعةَ الخطابية المناسبة، المكوَّنة من التقدير والاحترام، لا سيّما حينَ يتعلَّق الأمر بوفود المخاتير، ورؤساء العشائر، والعائلات، فقد كان يخاطبُ فيهم تقاليدَهم، وعاداتِهم، ورغباتِهم، حين كان يُردِّدُ: ألم يقلْ رسولُنَا- يا إخوتي-: « تناكحوا، تناسلوا، تكاثروا، فإني مُباهٍ بكم الأممَ»؟

وما أزال أذكرُ أنني كنتُ- أيضاً- ضمن وفد من الإعلاميين والكُتَّاب، عندما التقينا به، أواخر عام 1999. كان يُجيدُ استخدام فنَّ توزيع نظراته على جميع الجالسين، كهباتٍ، ومكافآتٍ مؤثِّرة، قال يومها:

يا إخوتي، (الإسرائيليون) ليسوا أكثر منّا، كم يبلغ عددُ سكان الضفّة وغزة؟ لم ينتظرْ جوابَ أحدٍ منَّا، فواصلَ قائلاً: إذا أضفنا إليهم إخوتَنا الصامدين منذ عام 1948 نصبح خمسة ملايين، والإسرائيليون مثلنا: نحنُ وهم متساوون في العدد!

هذا وطننا، ومن حقّنا أن نحيا حياة حُرَّة كريمة، ثم أضاف: لماذا يوسِّعون المستوطنات في قطاع غزة؟ إنها جريمة حرب. يومها، حاولتُ أن أُربط بين ما ذكره الرئيس عن تساوي أعداد الفلسطينيين، وبين احتجاجه على توسيع مستوطنات قطاع غزة.

ولم أكن أعلم أنه سوف يقوم بتحدّي سلطات الاحتلال، وهو عائدُ من معبر رفح البرّي، ليقرّر فجأةً- كما قال سائقُ سيارته- ألّا يمرَّ بالطريق المتَّفَق عليه مع الجانب الإسرائيلي، طريق صلاح الدين، وأن يُقرِّر فجأةً، قبل أمتارٍ من مفترق مستوطنة نتساريم، أن يمرَّ في طريق المستوطنة، المخصَّص- فقط- للمستوطنين ولجيش الاحتلال، بدون تنسيقٍ مُسبَق مع الإسرائيليين.

قال السائق: أمرني الرئيس بأن أنعطف غرباً، في شارع نتساريم، المخصَّص- فقط-للمستوطنين، فشعرتُ بالخوف، كنتُ أتوقَّع أن تحدثَ مشكلةٌ، وكان أبو عمار رابطَ الجأش، قوياً، فمررنا، وتخطّينا الحاجزَ الإسرائيلي الأوَّل، ثم الثاني، بصعوبةٍ وببطءٍ، بسبب الحواجز الإسمنتية. كنتُ أرى الدهشة والذهولَ مرسومين على وجه الجنود الإسرائيليين، والناجمَيْن عن هجمة الموكب الرئاسي غير المتوقَّعة. ولم تقتصر الدهشةُ على الجنود الإسرائيليين، بل إن طاقمَ الموكبِ كلَّه، تنفَّس الصعداء، فور وصولهم إلى مقرّ الرئاسة، وهنَّأ بعضَهم بعضاً بالسلامة.

قال مستشار أرئيل شارون، دوف فايسغلاس، واصفاً الشهيد ياسر عرفات:

«بذلنا جهداً كبيراً لإقناع العالم وأميركا بأنه إرهابي، بعد أن صادرنا سفينة السلاح، كارين إي، وسلَّمنا الوثائق لأميركا، فأعلن بوش، عام 2000، أن ياسر عرفات لم يعد شريكاً، وهكذا، كان حصارُنا للمقاطعة أمراً مشروعاً.

إن عرفات أسوأ أعداء إسرائيل». أما الشاعرُ الكبير، محمود درويش، فكان له رأي آخر: «هذا الزعيم وُلِد من رماد النكبة، إلى جمرة المقاومة، إلى فكرة الدولة. نجا من غارة على مكتبه، ونجا من سقوط طائرته في الصحراء الليبية، ونجا من آثار حرب الخليج الأولى، ونجا من صورة الإرهابي، واستبدل بها صورة الحائز على جائزة نوبل للسلام».