المذبحة الإنسانية التي يتعرض لها شعبنا في القطاع، وما يجري من تسارع في تنفيذ مخطط لمذبحة سياسية في الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة، من الواضح أنها لا تستهدف فقط تقويض النظام السياسي، واستمرار هندسته للتكيف مع مخططات حكومة اليمين الفاشي في إسرائيل، بل، وعلى ما ضوء ما ستفضي إليه نتائج حرب الإبادة على قطاع غزة، فإن هذه الحكومة تعتقد بأن التطورات الدولية، وليس فقط عودة ترامب، لن تشكل عائقاً أمام مخططات تصفية القضية الفلسطينية، وبما يشمل التطهير العرقي والتهجير الجماعي في سياق خطة إلغاء الوجود الفلسطيني، والذي قد يتسع مداه ليشمل جماهير شعبنا داخل الأرض المحتلة منذ نكبة 1948. فعتاة مفكري اليمين، وليس فقط زعران نتنياهو "سموتريتش وبن جڤير" لطالما دعوا إلى تصويب ما يسمونه بالخطأ التاريخيّ عام 1948، بعدم تهجير من تمسكوا بأرضهم في الجليل والمثلث والنقب، وباقي أرض فلسطين التاريخية أي الضفة والقطاع. فهذا هو جوهر المشروع العنصري للصهيونية، وما يرتكز عليه من استراتيجيات الاقتلاع والتبديد والتصفية.
ولكن، ورغم ما تمتلكه العنصرية الإسرائيلية من قدرة على ارتكاب جرائم الإبادة لتنفيذ هذه الاستراتيجيات، بفعل ما يتوفر لها من دعم عسكري وسياسي واقتصادي وقانوني من قبل صُنّاع الدولة العبرية، سيما في واشنطن ولندن، وغيرها من العواصم الغربية، ومن تواطؤ وعجز غير مسبوقين للنظام العربي الرسمي يعيد للذاكرة الحالة العربية والإقليمية عشية النكبة. رغم ذلك كله، فإن هذه القدرة الإسرائيلية ليست مطلقة، خاصة وأن الشعب الفلسطيني قد امتلك بخبرته التي دفع ثمنها من دمه وليس فقط من أرضه ومصادر رزقه، بأن سلاحه الأقوى يتمثل في تشبثه بأرضه وقدرته على البقاء والصمود. ذلك ببساطة لأنه يدرك تماماً أن أثمان الانكسار أو التسليم بالهزيمة كما يُرَوِّج البعض هي أضعاف بما لايقاس مما يتعرض له اليوم من إبادة وحرب للسيطرة على أرضه ومستقبله.
والسؤال الذي سنظل نطرقه، كي لا يتكرر سؤال غسان كنفاني: "لماذا لم يدق أبو قيس وأسعد ومروان جدران الخزان، وهم يختنقون في صهريج مقفل في تيه صحراء النكبة"، وماذا لو كانو دقوا جدران ذلك الخزان؟ هو: هل سيسمح شعب فلسطين، بعد كل هذه التضحيات ومسيرة المقاومة الممتدة منذ النكبة، وما يدفعه اليوم من أثمان غالية في مواجهة عنصرية المشروع الصهيوني، ومن مخاطر محدقة بمصيره الوطني، بتكرار مأساة النكبة والضياع في تيه صحاري اللجوء والتشريد؟! هنا يكمن الرهان أولاً وأخيراً .
صحيح أن جرائم الإبادة ضد شعبنا في القطاع، وما يرافقها من أنين أرواح الأطفال والنساء والشيوخ التي تسفك دماؤها تحت دمار بيوتهم ورماد خيامهم، تدمي قلوب شعبنا وكل شعوب العالم المنحازة لقيم العدالة والإنسانية، إلا أنها حتى اللحظة لم تتمكن من تغيير واقع الصمت والعجز الناجمين عن حالة الانقسام، أو أن تُجبر صُنّاع القرار الدولي على التراجع عن الاستمرار في تغطية هذه الجرائم. مع ذلك فهذه ليست الصورة الوحيدة في المشهد العام رغم سوداويتها القاتمة. فمجرد استمرار القدرة على المقاومة يؤكد على أن إسرائيل غير قادرة على إخضاع شعبنا، الأمر الذي يُؤكد مرة تلو الأخرى فشل الخيارات العسكرية التي طالما استهدفت إخماد روح الثورة والمقاومة تمهيداً لتصفية حقوق شعبنا الوطنية وقضيته العادلة. فإسرائيل لم تنجح حتى اللحظة من تحقيق أي من أهداف حربها الإجرامية على شعبنا، باستثناء عار الإبادة التي عَرَّت سقوطها الأخلاقي وعنصريتها الكريهة أمام شعوب العالم. وهي بالتأكيد تدرك أن استمرار فشلها يعني هزيمة مشروعها السياسي، مراهنةً على إمكانية تجاوز هذا الفشل من خلال منع شعبنا من معالجة نقاط الضعف التي تعاني منها الحالة الفلسطينية، سيما لجهة استمرار حالة الانقسام، وسلخ مصير قطاع غزة عن الكيانية الوطنية، وبما يمكنها من تمزيق ليس فقط هذه الكيانية، بل والتمثيل الوطني الموحد الذي طالما عبرت عنه منظمة التحرير الفلسطينية، التي سبق وقادت النضال الوطني كجبهة وطنية عريضة متحدة، وبهذا الدور انتزعت شرعية وحدانية تمثيلها لشعبنا، ونجحت في مراكمة ما حققه من إنجازات. فأين نحن اليوم من هذا الدور؟! وهل كان يتخَّيل أيٌ من أبناء شعبنا، حتى في أسوأ كوابيسه، بأن قيادته ستظل، ورغم بشاعة ما يواجهه من إبادة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، تُغَلِّبُ السير خلف سراب تسوية تدوسها العنصرية الإسرائيلية فوق جثث ضحايا شعبنا، على الاستجابة للإرادة الشعبية والإجماع الوطني الداعي لمواجهة حرب الإبادة والتصفية بالعودة لمكانة منظمة التحرير كقيادة وطنية موحدة لنضالنا الوطني، وباعتبارها جبهة وطنية عريضة سبق وقادت هذا النضال بنماذج فارقة في مسيرة شعبنا لعل أبرزها ما مثلته الانتفاضة الكبرى عام 1987 وقيادتها الوطنية الموحدة، التي وضعت القضية الفلسطينية على رأس أولوية الاهتمام الدولي، بل وصوبت مكانة منظمة التحرير ومجمل النضال الوطني، بما في ذلك داخل المجتمع الاسرائيلي نفسه، باعتباره نضالاً تحررياً، وليس إرهاباً، كما دأبت حكومات الاحتلال على وصمه.
المتغيرات الدولية والإقليمية لا تسير بصورة كلية لصالح المشروع الصهيوني، فجريمة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي أحدثت ثغرة كبيرة في جدار المشروع الصهيوني، والسؤال الموجه للمهيمنين على المشهد والقرار الوطنيين هو: هل استمرار الحال الذي بات من المحال، وفي ظل مخططات التصفية المعلنة، بل ويجري تنفيذها على الأرض، يمكن له أن يُنجِّي قضيتنا من التصفية، وأن يحمي الإنجازات ويصون التضحيات الهائلة التي قدمها شعبنا؟! أم أن، وكما أكدت التجربة الوطنية ذاتها، تستدعي العودة لصيغة الجبهة الوطنية الموحدة في إطار منظمة التحرير كما عبر عنها اتفاق بكين، وتوفير الأمل لشعبنا بالتنفيذ الدقيق والفوري لهذا الاتفاق، وتكليف حكومة وفاق وطني مسنودة بالإرادة الشعبية والإجماع الوطني. حينها ربما نكون قادرين على السير بقضية شعبنا نحو بر النجاة، والمضي قدماً لاستنهاض كامل طاقته، وبما يصون تضحياته وإنجازاته، ويعزز وحدته ومناعته الوطنية في الطريق للحرية والعودة وتقرير المصير؟