"كان ياما كان، كان في أطفال مبسوطين بيحلموا بحديقة كبيرة مليانة ألعاب وغرفة دافية يرجعولها آخر النهار فرحانين، ولكن لم يعد المكان كما كان".. انتهت القصة.
تلك القصة التي حلموا بها أطفال قطاع غزة منذ أكثر من عام، ينامون ليلهم تحت قصف المدافع والطائرات ويستيقظون على أمل أن يكون ما عاشوه في الليل مجرد كابوس، لكنهم يستيقظون على واقع أصعب ينتظرهم كل يوم بل كل دقيقة، فعدا عن القتل الممنهج والإبادة التي يمارسها الاحتلال بحقهم إلا أن الحرب أضافت لأعمارهم عشرات السنين فتحملوا مسؤوليات وهموم رجال ونساء كبار لا يستطيعون تحملها وأضحوا بجانب مَنْ يكبرونهم بالعمر جنباً إلى جنب في أعباء الحياة الصعبة من الوقوف على طوابير المياه الحلوة والمالحة وطوابير التكيات وأمام مؤسسات توزيع المساعدات وجمع الحطب وبيع الترمس وغزل البنات والحلب والعوامة والبراد وأكياس العصير والمسليات وغيرها من السلع التي تُرضي الأطفال الآخرين الذين في معظم الأوقات لا يستطيعون شراءها بسبب عدم مقدرة آباءهم على توفير شيكلاً واحداً لشرائها.
أطفال يجيئون ويذهبون، يصرخون تارةً وينادون بصوتٍ منخفض تارةً أخرى ليسمعهم كل مَنْ في الخيام وينادون عليهم ليجبروا بخاطرهم.
بائعون صغار ولكن..!!
حمدي ذو العشرة أعوام كان من الأطفال المتفوقين في دراسته المتميز في أدبه وأخلاقه يسير متثاقلاً من عبء ما يحمل بين ذراعيه من خبز بلدي، فتارةً يقف ليستريح من ثقل ما يحمل وتارة أخرى يسير مسرعاً لكي يتسنى له أن يبيع كل ما معه ليعود لأمه التي تتحرق شوقاً لأنَّ يعود إليها سالمًا معافا، يقول: "من سنة واحنا بننزح من مكان لمكان أنا وأمي واخواتي الاثنين الصغار، والدي استشهد في شمال القطاع قبل ما ننزح، راح مشان يأمن لنا سيارة لتنقلنا للجنوب وبعد انتظار ساعات ما رجع، واستنينا أكثر لحد ما سمعنا صوت الناس بينادوا علينا أبوكو استشهد ..أبوكو استشهد، في هاديك اللحظة حسيت إني صرت عريان من غير شيء بردان وخايف لأنه الأمان والسند راح، دفنا والدي وتوجهنا مع ناس قرايبنا للجنوب، ما النا حدا هان نمنا بالشارع يومين من غير أي غطا أو سقف يحمينا لحد ما تدخل أولاد الحلال ونصبوا النا خيمة تسترنا أنا وأمي واخوتي".
وتابع: "من أول يوم نزحنا فيه ما كان معنا غير 200 شيكل وهذا المبلغ بينتهي بنفس اليوم،لأنه ببساطة ما بيجيب شي وكل الأسعار غالية".
وأضاف حمدي: "اتفقت أنا وأمي إني أبيع أي شي مشان نقدر نعيش، ما كنت بعرف كيف ببيعوا ولا كيف بيتعاملوا مع الناس،لأني بالشمال كانت حياتي من البيت للمدرسة ومن المدرسة للبيت، لكن ما في مجال للاختيار، بعت بالأول ترمس وبسكوت بعدين أمي عملتلي عوامة وحلب، وكل منطقة بننزح إلها ببيع اشي حسب المتاح وفي الوقت الحالي ببيع خبز والحمد لله ماشي الحال".
وعن مدى جدوى بيعه وهل يستطيع أن يعيش من ربح ما يبيع، قال: "ما في ربح، إذا بتقولي ربح فأنا ما بربح لإنه بيصفى معي آخر الليل من 5 شيكل لعشرة شواكل بتركهم لأمي مشان تجيب لإخوتي اشي ياكلوه، ومرات بروح مخلص كل الي معي، ومرة ما ببيع كتير وبكمل اليوم التاني".
يصرخون بوجهي
وعن المواقف التي يتعرض لها في يومه، يقول بتنهيدة قوية: "ما بيمر يوم غير ما الناس تصرخ بوجهي وتقولي امشي من هان، وطي صوتك، هاد غير الشتايم والكلام البذيئ الي بسمعه في نهاري وخصوصا الصبح وقت ما الناس تكون لسا نايمة".
حرقوا مدرستي وبيتي
"تغريد ورامز"، لم يختلف معهما الحال كثيراً عن حمدي فهم يخرجون منذ ساعات الصباح الأولى ليبيعوا الشراب البارد أو ما يتيسر لهم من سلع بسيطة إما حلب أو بسكويت أو غزل البنات وغيرها من السلع التي تُدخل الفرح لقلوب الأطفال.
يقول رامز: "تعودت على البيع والشقاء وتحمل المسؤولية منذ صغري وكنت بعدما ينتهي دوامي المدرسي أتناول طعام الغداء وأنزل إلى الشارع لبيع المسليات والحلوى".
وعن السبب الذي يجعله يعمل بعد دوامه المدرسي يقول لمراسلة وكالة "خبر": "أبي مريض وبالكاد يعمل في الشهر يوم أو يومين وما تبقى من الشهر يظل نائماً في فراشه ونحن خمسة أخوة، بالإضافة لوالدي ووالدتي والمسؤولية والمصاريف كبيرة جداً وإخوتي يحتاجون لدفاتر وأقلام وملابس جديدة وأبي لا يستطيع تلبية طلباتهم، لذلك قررت أن أساعدهم".
وأردف: "صحيح قبل الحرب كنا فقراء وبالكاد نستطيع توفير لقمة العيش لكن الحرب دمرت كل شيء، ضاع المنزل وأحلامي حرقوا مدرستي ومدرسة إخوتي وضاع أمل الرجوع إليها مرة أخرى، وبتنا كبقية الناس في الشارع والخيام نعيش على التكيات والمساعدات ولا مصدر دخل لنا يمكننا من خلاله أن نشتري كل ما يلزمنا أو ما يشتهيه إخوتي، وبما أنني أصبحت بلا تعليم اتجهت للبيع لمساندة أبي وأمي في هذه المحنة الصعبة، وها هي أختي الصغيرة تساعدني في المناداة على الأطفال تارة أو بحمل الأشياء تارة أخرى".
جدير ذكره أنَّ العديد من المؤسسات والجهات المانحة اتجهت لفتح خيام لتعليم الأطفال في المراحل الدنيا "من الصف الأول وحتى الرابع الإبتدائي" كمرحلة أولى لكي يظل الأطفال على تواصل مع المنهاج والتعليم، وبرغم الإقبال الكبير من قبل الأهل لتسجيل أطفالهم في تلك المبادرات إلا أن الأهل لم يلحظوا تغييراً كبيراً على استجابة واستيعاب أطفالهم، فكيف سيكون هناك تركيز وفهم وأدنى مقومات الحياة معدومة، فلا طعام صحي يساعدهم على التركيز ولا مكان جيد يعيشون فيه لمراجعة دروسهم المدرسية ولا أيام طبيعية خالية من الموت والقتل والدمار تساعدهم على عدم نسيان ما تعلموه في هذه المبادرات، أضف إلى ذلك وضع المواطن الاقتصادي الصعب فالغالبية العظمى من العائلات فقدت مصدر رزقها الوحيد فاعتمدت على أطفالها في البيع أو الوقوف على طوابير المياه والتكيات.
ومع استمرار حرب الإبادة يظل الطفل يدفع الثمن مضاعفاً، ثمن الظروف الصعبة التي يعيشها وثمن الحرب التي دفعها من دمه وروحه وراحته، فقتل الاحتلال منهم عشرات الآلاف ومازال لم يكتفي ويبقى متعطشاً للمزيد من دمائهم.