تحييد الجبهة اللبنانية

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 


هل تفاجأ حزب الله بعملية 7 أكتوبر؟ وهل اتفقت كتائب القسام مع الحزب على تنسيق هجوم مباغت مشترك، ثم تخلف الحزب عن المشاركة؟ وهل نصح نصر الله السنوار بالتريث وعدم التورط بحرب، لكن الأخير ظل مصراً على خوضها؟ هل فعلاً أرسل السنوار لنصر الله يعاتبه ويحثه على الهجوم بأقصى قوة؟
لن نحصل على أي إجابات يقينية عن تلك الأسئلة، وسيظل علمها في رحم الغيب، ومن أسرار الطوفان التي قد لا نعرفها أبداً، وكل ما يُقال بشأنها مجرد تكهنات وتحليلات، لكن الأكيد أن حزب الله انخرط في المعركة منذ اليوم التالي للطوفان.
وما هو واضح أن انخراطه كان متحفظاً ومحسوباً بدقة، بهجمات محددة، بحيث لا تستفز العدو لدرجة البطش، ولا تتحول الاشتباكات إلى حرب كبرى.
وما هو واضح أن قيادة الحزب أدركت أنها غير جاهزة لخوض حرب، وغير قادرة على تسجيل انتصار فيها (بسبب الخلل الفادح في موازين القوى)، لذا كانت مشاركته استجابة عاطفية للخطاب الشعبوي، ولأنه وجد نفسه أسير الشعارات والتهديدات الكبرى التي ظل يرفعها، مع قناعته «العقلانية» أن خيار الحرب والمواجهة المفتوحة ليس خياراً صائباً في هذا الوقت لاعتبارات عسكرية وسياسية كثيرة.
عندما ألقى السيد حسن نصر الله خطابه الأول بعد شهر من بدء العدوان، كان واضحاً أنه لا يريد حرباً لا قِبل للحزب بها، ولأنها ستجر خسائر جسيمة لا طاقة للبنان على تحمّلها، ولا شك في أنها رؤية حكيمة ومسؤولة وبعيدة المدى.. تضع مصلحة لبنان في الحسبان، وتأخذ بالاعتبار حسابات الميدان والسياسة بعيداً عن العاطفة.. لكن قطاعات واسعة من الجماهير أصيبت بالخيبة، إما لأنها رفعت سقف توقعاتها عالياً بالاستناد إلى الخطاب التهديدي القوي الذي اعتادت على سماعه من الحزب، وتضخيم الحديث عن محور المقاومة ووحدة الساحات.. أو لأن تلك الجماهير منقادة لخطاب شعبوي تحريضي خلق ما يسمى «دكتاتورية الرأي العام»، أو الدهماء بالفصحى، أي أولئك الذي يفكرون بعواطفهم وغرائزهم «الانتقامية» دون إحساس بالمسؤولية.
هؤلاء كانوا يريدون حرباً، وبمعنى أدق وأكثر واقعية كانوا يستعجلون رؤية خراب لبنان وتدمير مقدرات الحزب كما هو حاصل الآن.. وهذا ما كان واضحاً في ذهن نصر الله ومنذ البداية.
بكلمات أُخرى، وجد حزب الله نفسه في مأزق أو ورطة منذ الساعات الأولى لعملية السابع من أكتوبر، صار في وضع لا يُحسد عليه، وبين خيارات صعبة ودقيقة.. إما خوض حرب «خاسرة» عسكرياً ومدمرة للبلد.. أو الوقوف على الحياد والاكتفاء بالدعم الكلامي لغزة، وهذا غير مقبول، ولا متوقع ويُفقد الحزب مصداقيته ومشروعية وجوده وقاعدته الشعبية.
فحاول نصر الله الإمساك بالعصا من المنتصف، أي خوض حرب محدودة ضمن قواعد الاشتباك المقبولة للطرفين، وبذلك يرضي جماهيره ولو نسبياً، ولا يستفز عدوه لدرجة تخرج الأمور فيها عن السيطرة.
فخلال سنة من الاشتباكات كانت النتيجة إفراغ شمال فلسطين من المستوطنين، حيث اضطر نحو 100 ألف مستوطن لمغادرة مستوطناتهم والنزوح (ولكن إلى الفنادق والمنتجعات)، وأُجبر الجيش الإسرائيلي على تخصيص جزء كبير ومهم ومن قواته ومعداته وجنوده للتفرغ لجبهة الشمال.
مع أن نزوح المستوطنين حمّل الاقتصاد الإسرائيلي أعباء إضافية، لكن تلك الأعباء على ضخامتها تبين أنها لم تشكل عاملاً حاسماً باتجاه إيقاف الحرب، أو تغيير مسارات العدوان، كما أن تخصيص جزء كبير من الجيش للجبهة الشمالية لم يؤدِّ إلى أي إرباك في مخططات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، ولم يؤثر بشكل فعّال على الجبهة الجنوبية.
ومع ذلك، لم تقبل إسرائيل بهذا الوضع.. ولم تقبل تهديدات الحزب ومحور المقاومة.. لذلك ما أن نضجت الظروف وآنت اللحظة المناسبة حتى انقضت على الحزب بهجمات غادرة ومباغتة، ملحقة به ضربة موجعة أدت إلى فقدانه قيادات الصف الأول والثاني والثالث، وتدمير جزء كبير من مقدراته العسكرية واللوجستية، وصولاً إلى الاجتياح البري، وتدمير عشرات القرى اللبنانية والضاحية الجنوبية، ونزوح مليون لبناني، واستشهاد نحو أربعة آلاف من مقاتلي الحزب ومدنيين كُثر. وتلك تضحيات غالية جداً وخسائر فادحة.
في المقابل خسرت إسرائيل 75 جندياً على الجبهة اللبنانية، وتعرضت لوابل من الصواريخ والمسيّرات أصابت أهدافاً دقيقة أغلبها عسكرية.. وتلك إهانة منكرة لإسرائيل التي ظلت تباهي بأنها حصينة ولا أحد في الإقليم يجرؤ على ضربها.
بعد شهرين من حرب طاحنة أُجبر الحزب على التراجع خطوة إلى الوراء، والموافقة على إعلان وقف إطلاق النار، وأود هنا تسجيل ملاحظات سريعة ومكثفة:
- بعد تلقيه ضربة مباغتة وفقدانه قياداته وخطوط اتصالاته تمكن الحزب من إعادة تنظيم صفوفه بدرجة مقبولة وبسرعة قياسية، ومع ذلك تبين أن الحديث عن قوته الصاروخية وأنفاقه واستخباراته وقدراته السيبرانية فيه قدر كبير من المبالغة.
- سلّم الحزب ملف المفاوضات السياسية لجهة رسمية، وهي الدولة اللبنانية (وهذا لم تفعله حماس)، ووافق على التراجع والانسحاب حرصاً على مصلحة البلد والشعب وحياة المدنيين (وهذا لم تفعله حماس)، ولم يتصرف الشعب اللبناني مع جيشه الرسمي بتهكم وسخرية ولم يطالبه بالانخراط في الحرب، لأنه لا يريد تدمير بلده، ويعرف قدرات وإمكانيات الجيش (وهذا حصل عكسه في الضفة الغربية والأردن).
- كانت إسرائيل تخطط للقضاء المبرم على حزب الله وتغيير المعادلة بالكامل، لكنها عجزت عن ذلك بالشكل الذي تريده، ووافقت على وقف إطلاق النار بسبب ضراوة وكفاءة صواريخ حزب الله، ولأن الجيش لم يتمكن من تنفيذ اجتياح بري مريح وكاسح كما فعل في غزة، واكتفت إسرائيل بما تحقق من نتائج.
- لن تستطيع إسرائيل القضاء على حزب الله، ولكن يمكنها إضعافه وإخراجه فقط من خلال إيران وإجبارها على التخلي عنه، وإيران بدورها لن توافق إلا إذا حصلت على الثمن المطلوب، أي تطوير برنامجها النووي، وامتلاك القنبلة، وهذا لن تقبل به إسرائيل، لذا من غير المؤكد صمود إعلان وقف النار، واستقرار المنطقة، خاصة على المدى البعيد، فمن المؤكد أن الصراع سيتجدد، ما قد يدفع بأميركا إلى خوض حرب نهائية مع إيران.. وهذه الاحتمالات مستبعدة حالياً، لكنها ممكنة.
- الحزب لم يخذل غزة، وغزة ليست مسؤولة عن تضحيات اللبنانيين، وكلاهما مخذول ومقهور أساساً، مع تحفظي على كلمة خذلان.
السلام للبنان وفلسطين، وشكراً لبنان، وشكراً لكل من قاوم.