يصعب أن يصمد طويلاً اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية. قبل أن يجف حبره اخترقت التزاماته.. وثغراته قد تفضي إلى تقويضه.
«لا يعني وقف إطلاق النار إنهاء الحرب، وقد يكون قصيراً».
هكذا تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد يومين من خطاب النصر، الذي أعلن فيه وقف إطلاق النار أو «الهدنة المؤقتة» بمعنى أكثر واقعية.
حاول في ذلك الخطاب أن يضفي على نفسه صفة «المنتصر»، لكنه عاد ليعترف أمام الكاميرات بما معناه أن موافقته على وقف إطلاق النار كانت اضطرارية حتى يمكن إعادة تسليح الجيش بما يحتاجه من عتاد وذخيرة!
لم تقتنع أغلبية الإسرائيليين، حسب استطلاعات الرأي العام، بأن هناك نصراً تحقق، رغم فوارق السلاح والاغتيالات، التي نالت من قيادات حزب الله، والتهديم الواسع لمبانٍ ومواقع في العاصمة بيروت والجنوب اللبناني.
الحروب تقاس بنتائجها السياسية. لا حزب الله تقوض ولا مخزونه التسليحي نفد، ولا سكان الشمال عادوا إلى مستوطناتهم بأمان حتى الآن، كما تعهد سابقاً.. ولا كان ممكناً إنشاء حزام أمني بذريعة حماية أمن الحدود الإسرائيلية.
الصور لخصت مفارقات الحرب. ابتهاج لبناني واسع بوقف إطلاق النار وعودة تلقائية إلى الضاحية الجنوبية وبلدات الجنوب وعلامات النصر ترفع.. يقابله شعور طاغٍ بخيبة الأمل في أوساط مستوطني الشمال لعدم تمكنهم من عودة مماثلة، وجدل محتدم حول النتائج الحقيقية للحرب.
إننا أمام شعب يحب الحياة رغم تعب الحرب وانقساماته الداخلية.. وآخر لا يشعر بالأمن رغم إنجازاته العسكرية التكتيكية، التي لم تسفر عن تغيير كبير في موازين القوة.
بقوة الحقائق لم يكن هناك طرف منتصر وآخر مهزوم في هذه الحرب. حالة اللا نصر واللا هزيمة تؤسس لحرب جديدة بعد وقت أو آخر.
لماذا وافقت إسرائيل، اليوم وليس قبله، على وقف إطلاق النار مع حزب الله في لبنان قبل أن تحقق أهدافها المعلنة؟ هناك مجموعة من الأسباب المتداخلة:
أولها، الحالة التي وصل إليها الجيش الإسرائيلي من إنهاك في حربي غزة ولبنان وحاجته إلى التقاط الأنفاس، فضلاً عن مشاعر الإحباط والخوف، التي أصابت المجتمع كله من وصول صواريخ ومسيرات حزب الله إلى مواقع عسكرية ومدنية حساسة.
ثانيها، نجاح المقاومة بسرعة لافتة في امتصاص الضربات القاسية، التي قضت على أغلب هيكله القيادي، وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله، كما إثبات قدرته على إلحاق الألم بالطرف الآخر.
ثالثها، الوضع الداخلي اللبناني الضاغط من أجل وقف الحرب. لم ينفجر لبنان من الداخل خشية الاحتراب الأهلي وإدراك غالبية اللبنانيين ممن يختلفون مع الحزب أن إسرائيل تستهدف وجود البلد واحترامه وسيادته، لكن تناقضاته لاحت على مرمى البصر منذرة بما قد يفضي إليه أي حساب لا ينظر في الحقائق حوله.
رابعها، خشية استصدار قرار أممي بوقف الحرب قبل أن تنقضي ولاية الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن حتى يحسن من صورته، التي تقوضت تماماً بأثر تورطه الكامل في حربي غزة ولبنان.
اللافت هنا أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب أكد أولوية وقف الحرب في لبنان فور أن يدخل البيت الأبيض. الضغط الأميركي حاضر، لكنه لم يكن العامل الحاسم.
خامساً، الحسابات الإيرانية المتداخلة في الملف، التي تنظر فيما يمكن أن يحدث تالياً، وبالأفق ملامح سيناريو غربي يميل إلى الاحتواء بدلاً من الصدام مقابل خفض التصعيد في الشرق الأوسط.
الحسابات المتداخلة أفضت إلى وثيقة وقف إطلاق النار بالصيغة التي خرجت بها.
وفق نصوصها فإن هناك تنازلات جوهرية اضطر إليها حزب الله أهمها وأخطرها: «يحتفظ الطرفان بحق الدفاع عن النفس ضمن أطر المواثيق الدولية».
كان ذلك النص - بالذات - محل اعتراض واسع من جميع الأطراف اللبنانية، حيث يعطي رخصة لإسرائيل بالتدخل العسكري في أي وقت وانتهاك الأجواء اللبنانية باسم حقها في الدفاع عن نفسها، وهو حق عهد عنها التوسع في تعريفه بما ينتهك كل القوانين والمواثيق الدولية، كأنها دولة فوق القانون.
الكلام عن أن لبنان له نفس الحق مراوغة مع الحقائق، فالوثيقة نفسها تتبنى استراتيجية كاملة تفضي إلى تفكيك جميع المنشآت غير القانونية المعنية بإنتاج الأسلحة.. وتفكيك البنى التحتية والمواقع العسكرية ومصادرة أي أسلحة غير قانونية لا تتماشى مع هذا الالتزام.
إذا رد حزب الله بقوته الصاروخية، فهذا خرق لالتزامه بوقف إطلاق النار، والكلام عن أن هذه مهمة الجيش لا محل لها في ظروفه الحالية.
بأي نظر موضوعي فهذه وثيقة سيئة تفتقد إلى التوازن وتجحف بحق لبنان. إنها أقرب إلى «وثيقة إذعان» تمنح إسرائيل بالتفاوض ما لم تقدر عليه في الميدان والالتزام بها يستحيل بأي حساب.
هذه المرة لم يخرج حزب الله منتصراً على النحو الذي حدث في حرب تموز (2006) ومكنه من تكريس صورته ونفوذه. لم يهزم لكنه لم ينتصر.
الاختبار الحقيقي الذي ينتظره أمام الخروقات الإسرائيلية المتواصلة.. مدى قدرته على ضبط النفس والحفاظ في نفس الوقت على ثقة جمهوره وأنصاره.
أسوأ ما يترتب على وقف إطلاق النار: إنهاء الإسناد اللبناني للفلسطينيين في غزة.
أوقفت الحرب على جبهة الإسناد الأساسية وبقيت جبهة غزة وحيدة في العراء الاستراتيجي العربي.
عندما بدأت الحرب على لبنان سُحبت فرق وألوية عسكرية من غزة إلى الشمال وصدرت تصريحات إسرائيلية تقول إن عملية غزة أنجزت مهامها وإن الحرب فيها أصبحت ثانوية. خالفت الحقائق التصريحات، ودخلت إسرائيل في حرب استنزاف منهكة بالقطاع المعذب. فور الإعلان عن وقف إطلاق النار، رغم الخروقات، عاد التركيز مجدداً على غزة التي لم ترفع الرايات البيضاء رغم ما تتعرض له من حرب إبادة وتجويع.
ما الذي قد يحدث غداً؟ هذا هو سؤال مصير القضية الفلسطينية إلى آماد طويلة مقبلة.