أثار قرار فصل نقابة المحامين للمستشار زيد الأيوبي نقاشاً مختلفاً لم أرغب في أن أعلق عليه إلا بعد صدور قرار المحكمة، بيد أن النقاش الحقيقي ليس أن تكون مع أو ضد، بل يجب أن يتركز على الدور الحقيقي لهذه النقابات ليتم فتح السؤال على مصراعيه حول الدور المرتقب والمأمول للنقابات وللاتحادات الشعبية لمنظمة التحرير وحقيقة دورها وما تقوم به.
لقد كان قرار المحكمة الإدارية صائباً بنقض قرار مجلس النقابة بحق الأيوبي، وربما وجب لفت نظر النقابة إلى تعديها على مفهوم الحريات العامة بقرارها، وأنها بذلك لم تناقض مبدأ وجود النقابات بالأساس بل مبدأ تفويضها وأهداف وجودها.
ثمة أزمة حقيقية نواجهها في البلاد بشكل عام، تتمثل بعدم استيعاب مفهوم الدور. كل شخص وكل مؤسسة لا تعكس ممارستهم حقيقة الأدوار المناطة بهم. هناك نزوع لتجاوز هذه الأدوار، فالشخص يقوم بما ليس من مهامه والمؤسسة تنفذ أشياء أكثر وأبعد من حدود التفويض المناط بها. والأساس لو التزم الجميع بدوره الحقيقي وقام به بشكل كامل فإن الحالة العامة ستكون أفضل، لأن جوهر الأشياء أن يقوم كل شخص بما هو مطلوب منه، وبالتالي يصح أن الواجبات جميعاً يتم تنفيذها، وأن المهام المطلوبة من كل شخص ومؤسسة يقومون بها. هكذا يستقيم الحال وهكذا تسير عجلة الحياة. ما يحدث عندنا أمر مختلف. حين كنا نسمع نشرات الأخبار سابقاً وتقوم المذيعة بسؤال طبيب حول الوضع في المستشفى، وكان هذا خلال الحروب السابقة، بدلاً من الحديث عن أوضاع الجرحى الذين وصلوا المستشفى وما قام به الأطباء من أجل معالجتهم أو الإشارة إلى الدواء وتوفره أو نقصانه يخوض في حديث طويل حول نوع الصاروخ الذي تم قصف المكان فيه، بل إنه يتبرع بالحديث عن الطائرة التي أطلقت الصاروخ، ويقوم بتحديد جهة وبُعد الطائرة وربما البارجة الحربية أو الدبابة. كنت أشعر أن الذي يتحدث هو خبير عسكري يستعرض معرفته وليس طبيباً أتوقع منه ان يخبرنا كمستمعين عن أحوال المصابين وأنواع إصابتهم وغير ذلك.
الأمر أيضاً لا يختلف حين تراقب ما يجري في النقابات والاتحاد. بعض رؤساء الاتحادات يقومون بمهام ليس من صلب عملهم، ناهيك عن السفر والترحال واللقاءات التي بالقياس لا يمكن توقع أن تجلب أي نفع، ببساطة لأن واقع الحال يقول إن الحال لم يتغير، ولإن هدفاً حقيقياً منشوداً لم يتم إنجازه. البعض تظنه رئيس كل الاتحادات أو النقابات، فهو يتحدث في كل شيء ويقوم بكل شيء إلا الشيء الذي يجب أن يقوم به، وربما أن اتحاده لم تنعقد أمانته العامة بكامل هيئتها منذ انتخابه. وربما غياب المساءلة والمراجعة من قبل جمهور النقابات والاتحادات سببٌ وراء هذه الانتكاسات أو سوء الفهم أو التضخيم غير الواجب للمهام الذي قد يحدث بحسن نية، ولكن بجهل مع ذلك.
بل إن بعض النقابات تضخّم من دورها وتضع نفسها في مواضع ليست في صلب اهتمامها او تفويضها، وتضع نفسها طرفاً في الصراع الداخلي. لا يمكن مثلاً تخيل ما يجرى مع الأيوبي إلا أنه انحياز حزبي واضح، وهذا لا يجب أن يكون الحال، فمن حق أي مواطن أن يكون له موقفه حول ما يجري، ففي نهاية المطاف الوطن للجميع ولا شيء مقدس إلا الوطن، أما اجتهادات التنظيمات والأفراد فهي خاضعة للمصلحة العامة قرباً وبُعداً. كما ان بعضها تضع نفسها نقيضاً تاماً للحكومة في فهم خاطئ للمساحة الفاصلة بين الفرد (العضو) والدولة، وهو الدور المناط بالمجتمع المدني، وربما في توظيف غير موفق لهذا الفهم. فالنقابة تمثيلية ولا تملك أن تضع سياسات الدولة بل تدافع عن حقوق أفرادها أمام الحكومة لو انتهكت القانون أو أعاقت تنفيذه. تخيلوا مثلاً أن تطلب علاوة والحكومة لا تستطيع أن تفي بالتزامات الرواتب، أو أن تهدد بتعليق الخدمة في قطاعات مثل التعليم والصحة، غير آبهة بمصالح الناس. هذا فهم خاطئ، ولكنه أيضاً خاطئ لأنه لا يوجد قانون ينظم كل ذلك. مثلاً لماذا يوجد اتحاد ونقابة في حالة المحامين وفي حالة الأطباء ولا يوجد في حالة المعلمين؟ ولماذا لا توجد نقابة في حالة الكتّاب ويوجد اتحاد؟ والعكس في حالة الصحافيين هناك نقابة ولا وجود لاتحاد. كما أننا بحاجة لإعادة تعريف النقابة والاتحاد، لأن بعض ما هو قائم بحاجة لدمج ربما أو بحاجة لفصل.
نحن بحاجة لقانون فلسطيني موحد للنقابات. قانون يحدد مهام النقابات وأدوارها ويسميها. بعض النقابات عندنا في الحقيقة ليست إلا فرعاً عن نقابة في دولة مجاورة، ومرد ذلك السياقات التاريخية. نقابة الأطباء مثلاً في الضفة الغربية هي فرع للنقابة في الأردن. إنها فرع القدس. فيما في غزة نقابة الأطباء نقابة فلسطينية مستقلة من جهة التأسيس والاسم. الشقاق بين الاتحادات والنقابات أيضاً بحاجة لتصور قانوني ووطني قبل كل شيء. مثلاً هل نقابة الصحافيين بعد فصل الصحافيين عن الكتاب تمثل أيضاً صحافيي الشتات؟ كلمة نقابة بحد ذاتها تشير إلى إطار قانوني ضمن مؤسسات كيان سياسي على هيئة دولة مثل السلطة، ولا يمكن لها أن تلعب الدور الذي يقوم به اتحاد الكتاب والأدباء بوصفه ممثلاً لكل كتّاب فلسطين. أنا من أصحاب الرأي حول وجوب وجود اتحادات تتبع منظمة التحرير وتطوير أطر قانونية فرعية تجعل وجود النقابات الجزء الخاص بالداخل كلجان تتبع الاتحادات حتى نحافظ على وجود هذه الاتحادات، ونعزز بنية منظمة التحرير وطننا المعنوي ودولتنا حتى إنجاز مشروع التحرير والعودة، وحتى نضمن تمثيل الكل الفلسطيني في الشتات فيها. مثلاً يلاحظ مثلاً وجود اتحاد محامين ونقابة محامين وغير ذلك في الكثير من الحالات، ولكن أيضاً يجب أن يكون انتظام الدورة الانتخابية في هذه الاتحادات منضبطاً، حيث أن بعض رؤساء الاتحادات يهيمنون على الاتحاد «الخاص» بهم فترات طويلة. ما أرمي إليه أننا بحاجة لقانون نقابات واتحادات قويٍ ومتين ويفصل كل شيء، حتى نساهم في تعزيز عمل هذه النقابات والاتحادات ونصوّبه.
مرة أخرى ... «ترامب الثاني»
17 نوفمبر 2024