المقاومة بكل أشكالها مشروعة في كل القوانين والشرائع الدينية والوضعية هذا من حيث المبدأ، وهي في هذا السياق تشبه الجهاد المسلح في الإسلام وقت الحرب فهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ولكن المشكلة في التطبيق، متى وكيف وفي مواجهة من يمارَس الجهاد؟ ومن مرجعيته أو الذي يُعلنه؟ فكم من ممارسات للجهاد كانت من مسلمين ضد مسلمين! وكان جهاداً لأغراض دنيوية وليس دينية وأضر بالمسلمين أكثر مما نفعهم،
كان الجهاد واجب وقت الفتوحات الإسلامية وتحت راية الرسول أو خليفة المسلمين، ولكن بعد قيام الدول الإسلامية الحديثة بقوانينها ودساتيرها والتزاماتها الدولية تم تجاوز الجهاد الى مصطلح الحرب أو الدفاع عن النفس وهو حق وممارسة من اختصاص الدولة حصرا، ولا يجوز لأي شخص أو جماعة أن تُعلن الجهاد والقتال، حتى وإن كان في مواجهة غير المسلمين، خارج إطار الدولة ومؤسساتها الرسمية وإلا تعتبر هذه الجماعات خارجة عن القانون.
وأمامنا اليوم تجربة الجماعات الاسلاموية والجهادية كتنظيم الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش والنصرة الخ، التي أعلن الجهاد على من تعتبرهم أعداء وكفرة حتى من المسلمين وكانت سببا في تخريب دول وتفتيت مجتمعات وإثارة حرب أهلية، وهي جماعات كان الغرب وخصوصا واشنطن وراء تأسيسها ومدها بالسلاج لخدمة مصالحهم في المنطقة وخصوصا صناعة الفوضى والشرق الأوسط الجديد
نعم من حق الشعب الفلسطيني مقاومة الاحتلال سواء سميناه كفاحاً مسلحاً أو جهاداً، ولكن المقاومة ليست فعلاً ارتجالياً بل تخضع لحسابات الربح والخسارة المرتبطة بالمصلحة الوطنية الخالصة وليس الحزبية أو الأيديولوجية والعقائدية الملتبسة، كما إنها جق للشعب ممثلا بقيادة وطنية، وحتى إن تعددت فصائل وأحزاب المقاومة المسلحة يجب أن تخضع لاستراتيجية وطنية حتى لا ينفرد العدو بكل جماعة على حدة، كما تتكيف المقاومة حسب طبيعة الاحتلال وظروف الزمان والمكان.
عندما نضع المقاومة التي تمارسها حركة حماس وفصائل أخرى محل نقاش وخصوصا في المواجهات الأخيرة ألمرتبطة بطوفان الأقصى وما تعرض له قطاع غزة وكل القضية من دمار وموت ومخاطر، يرد البعض مستشهدا بتجربة الثورة الفيتنامية والجزائرية متجاهلين خصوصية الحالة الفلسطينية.
في فلسطين احتلال استيطاني اجلائي واحلالي، بمعنى أنه ليس مثل التجارب الأخرى حيث ترسل دول استعمارية جيشها لاحتلال دولة أخرى بهدف استغلال خيراتها وثرواتها أو الاستفادة من موقعها الاستراتيجي، وعندما ينتهي الاحتلال بهزيمته أو بضغط دولي أو بتسوية ما يعود جيش الاحتلال لبلده الأصلي، بل نحن أمام عدو ومجتمع كامل من اليهود يزعمون أنهم أصاحب الأرض وأن ربهم وعدهم بها ولا يعترفون بوجود الشعب الفلسطيني، كما يلقى العدو دعما واسنادا من دول الغرب لروايته بالإضافة للدعم العسكري.
العدو والاحتلال في الحالة الفلسطينية ليس جيشا جاء من دولة أخرى، حتى وإن كان في بداياته مشروعا استعماريا زرعه الغرب الاستعماري، بل ملايين اليهود الذين يحتلون أرض فلسطين ويزعمون أنها وطنهم ودولتهم التي يعترف بها غالبية دول العالم بما فيها دول عربية واسلامية.
ومن جهة أخرى كانت فيتنام والجزائر بلادا واسعة، حيث مساحة فيتنام حوالي 331،699 ألف كيلومتر ومساحة الجزائر 2,381,741 كيلومتر مربع، وفي كل منها جبال وغابات، وتحيط بكل منها دول وشعوب تشكل قواعد إسناد وامداد، ففيتنام كان يقف معها بالسلاح والعتاد الاتحاد السوفيتي والصين وكل المعسكر الاشتراكي وتدعم سياسيا ثورتها غالبية دول العالم، ونفس الأمر بالنسبة للجزائر التي كان يقف معها دول المعسكر الاشتراكي ودول العالم الثالث وحدودها مفتوحة على دول جوار تشكل قواعد خلفية للدعم والاسناد.
كما أنه في زمن الثورتين منتصف الستينيات كانت الأمم المتحدة تتبنى سياسة تصفية الاستعمار وتدعم الشعوب التي تناضل في سبيل استقلالها، وحتى داخل امريكا وفرنسا كانت مطالبات بإنهاء الحرب وتطالب بسحب الجيش من فيتنام والجزائر.
كل ما سبق لا يعني التخلي عن مقاومة الاحتلال، ولكن بالنسبة للحالة الفلسطينية الراهنة إذا كان الاستمرار بالقتال أو المقاومة لن يؤدي لإجبار العدو على وقف حرب الإبادة ولا لانسحاب جيش الاحتلال ولا لمنع القتل اليومي للعشرات ولا وقف مخطط إعادة الاستيطان للقطاع، ولا حتى إنقاذ السكان من الجوع والمرض. وعندما تؤدي مقاومتهم المسلحة الى تدمير مقومات صمود الشعب وثباته على أرضه وتعريضه لخطر التهجير ...فلماذا تستمر حmاس بالحرب وحتى بأطلاق صواريخ عبثية تبرر للعدو استمرار جرائمه ومخططاته؟
عندما تؤدي المقاومة المسلحة، حتى وإن كانت مشروعة من حيث المبدأ، إلى تدمير مقومات صمود الشعب وتعريضه للتهجير، وهو الهدف الرئيس للعدو الذي يسعى لإقامة دولة يهودية خالصة بدون سكانها الأصليين آنذاك يصبح هدف تعزيز صمود الشعب وثباته في أرضه والحيلولة بين العدو واستغلال أعمال المقاومة المسلحة لتنفيذ مخططاته، يصبح هذا الهدف له الأولوية وأهم من المقاومة والجهاد بل يتحول المقاومون، بوعي منهم أو بدون وعي، لمنفذين لمخططات العدو.
للأسف في قطاع غزة وهو بؤرة المقاومة المسلحة الآن وبعد أن كان القطاع قاعدة ومنطلق الثورة ومجل رهان على استنهاض الحالة الوطنية، وبعد أن كان يُضرب به المثل في التضامن الاجتماعي وسمو القيم الاجتماعية تحول القطاع لمنطقة مدمرة ومنكوبة والناس جياع والعصابات تتنشر وتسرق حتى المساعدات التي تصل لتوزع على الناس، وميليشيات حماس إما إنها شريك مع العصابات في سرقة المساعدات أو تتغاضى عنها مقابل عمولة أو خوفا منها، في ظل هكذا وضع لا نكون أمام حرب تحرير شعبية ولا مقاومة فلسطينية بل قتال لجماعات مسلحة لمصالح شخصية وحزبية وحفاظا على بقايا سلطة حتى تحت الاحتلال.