لم يكن أحد يتوقع أن ينهار محور إيران بهذه السرعة، وأن يتم قطع كل أذرعها في المنطقة بهذه الطريقة. لنتذكر ما الذي حدث. تم تدمير غزة وتقليل خطورة «حماس»، إذ إن غايتها الآن فقط أن تعود الأمور، ليس إلى ما قبل السابع من تشرين الأول 2023، بل إلى أيار 2024 قبل احتلال رفح. كما تم إخراج «حزب الله» شمال الليطاني وتحجيم دوره بعد اغتيال قادته بأسبوع واحد، ثم إنهار نظام الأسد في دراما لم تستمر لمشهد واحد. وبين هذه الأحداث الثلاثة تم قصف إيران في ضربة من الواضح أن طهران تخشى أن ترد عليها حتى لا تخسر المزيد. بقي ربما الحوثيون في اليمن الذين رغم بعد المسافة إلا أنهم يواصلون الاشتباك، فيما سنشهد ربما في الأسابيع القادمة اشتباكاً حامياً معهم، وربما حرباً تشنها إسرائيل وواشنطن عليهم لتصفية ما تبقى من المحور.
لم يكن هذا المحور، الذي سخر جزءاً كبيراً من مهامه لتفتيت المنطقة العربية وتشتيت النضال الفلسطيني من خلال تعزيز الفرقة وحمايتها ورعايتها بدلاً من الدفع باتجاه إنهائها، لم يكن هذا المحور بهذه الصلابة التي يمكن أن يعتقدها المرء. وبات واضحاً أن طهران كانت توظف كل هؤلاء من فلسطينيين ولبنانيين وسوريين ويمنيين من أجل حماية مصالحها. ففي اللحظة التي شعرت أن أي تصعيد سيعني تدميرها، توقفت عن اللعب ولم تجرؤ على الرد على القصف الإسرائيلي، بل كان الرد الدفع بـ»حزب الله» إلى أتون حرب دمرت الكثير من لبنان وقادت إلى تصفية قيادته وتدمير مقدرات الحزب. أيضاً وفي ظل البحث عن التسويات، وجدت طريقها عبر المظلة الروسية لسحب قواتها من سورية وترك نظام الأسد يسقط. إيران كانت تلعب بأدوات الآخرين وتناضل بآلام شعوب المنطقة، وتتقرب إلى الله زلفى بتضحيات الآخرين، وحين اقتربت النار من وجهها أدارت ظهرها بشكل دراماتيكي للجميع حتى تحمي نفسها. القوة الإيرانية ليست نصرة للعرب، بل يتم تسليح بعض العرب من أجل تعزيز القوة الإيرانية، فطهران تلوح بيد غيرها لأنها تريد للجميع أن يعرف أنها التي تحرك كل هذه الأيادي. ما أقوله: إن القوة الإيرانية ليست ذخراً للعرب، وليست نصراً لهم. مرة أخرى بمجرد الدخول في مناوشة مع تل أبيب، تراجعت طهران التي اغتيل زعيم التنظيم الفلسطيني الإسلامي الحليف في مقر من مقرات حماية الشخصيات، كما تم اغتيال كل حلفائها في بيروت. وفي اللحظة التي شعرت أن أي تصعيد سيقضي عليها، وجدت مخرجاً فقهياً وبلاغياً لإنهاء التوتر مع تل أبيب. ليذهب الآخرون للجحيم وليتم محو غزة وتدمير بيروت وسحق دمشق وتخريب صنعاء، أما طهران فلا. أشعر بالحزن على كل من لا يفهم هذا. هذه هي النتيجة، وهذا ما جنته المنطقة من قيادة طهران لها.
رغم أن رحيل الأسد بالنسبة لي أمر مفرح، فالرجل لم يترك فرصة ليضربنا إلا فعل، وربما تذكر كل المآسي التي عاناها شعبنا تحت حكم العائلة الدموي من تل الزعتر، إلى دعم الانشقاق الفتحاوي والزج بقيادة الحركة في السجون، وصولاً لدعم انقلاب «حماس» على السلطة وكل ذلك، لكن العجيب أن يتم هذا الرحيل بهذه السرعة؛ فالرجل حتى لم يقاتل من أجل سلامة جنوده. هرب هروباً مخزياً تاركاً البلاد في يد خصومه. وفيما نحن كفلسطينيين لا نتدخل في القضايا الداخلية للدول العربية، وهو الموقف السليم الذي عبرت عنه الرئاسة الفلسطينية وسفارتنا هناك، فإن المحزن أن القطر السوري ترك في هذه الفوضى فيما كان يمكن للأسد أن يجنب البلاد 13 سنة من الصراع الدموي، لو فعل ذلك مبكراً. ولكن تذكروا أن كل سقوط الأسد كان جزءاً مهماً من تفكيك المحور شديد البلاغة والخطابة، فالممر بين طهران وبيروت سيتم وقفه، وسيتم منع تدفق السلاح والمال، ما سيعني أن «حزب الله» لن يتمكن من بناء قدراته، وأنه سيتحول إلى مجرد حزب سياسي لبناني عادي سيخسر كثيراً من دعم جمهوره الذي آمن بقدراته كجبهة مقاومة. أيضاً كل من تغطى بإيران سيجد نفسه هكذا، والحال كذلك بالنسبة للفصائل الفلسطينية حليفة دمشق، التي تصر على أن تكون كاثوليكية أكثر من البابا في الدفاع عن نظام انتهى، وربما دفع شعبنا إلى مقصلة الصراع السوري.
في غزة لا يبدو الأمر أحسن حالاً، فطموح «حماس» هو أن تبقى في الحكم ولو جزئياً من خلال لجنة مشتركة مع «فتح» في غزة. لذلك سعت لتعظيم مطالبها من اللجنة ودورها، حتى وجدت «فتح» نفسها ترفضها؛ لأن «حماس» تريد لجنة تشبه لجنة حكمها لغزة طوال الـ17 سنة الماضية، ولكن بمباركة «فتح»، وهذا ما لا يمكن أن يحدث. ما أقوله: إن «حماس» تركت وحيدة من قبل حلفائها بعد تفكك المحور الذي فضلت الاصطفاف معه على حساب الوحدة الوطنية. والأمر ذاته ينسحب على الفصائل الأخرى مثل الجهاد الإسلامي.
العراق تذهب للمزيد من الاستقرار مع تقلص تدخل إيران فيها، وبالجهود المبذولة لدمج كل الميليشيا التي ساهمت في القضاء على تنظيم «داعش» في الجيش. أما طهران فستدخل في سبات وانكفاء وانسحاب من التدخل، وربما في خلوات المرشد سيعيد تذكير نفسه ببعض التعاليم الحقيقية لسيد الخلق، سيدنا محمد، ويدرك كم المآسي التي جلبتها فكرة تصدير الثورة، أو «فرسنة المنطقة» بالأحرى، على العالم العربي والإسلامي. لا أحد يعرف طبيعة الصفقة التي عقدتها طهران من أجل أن تنجو، ولكن المؤكد أنها دفعت بالجميع في أتون اللهب وأدارت ظهرها، كما ليس مؤكداً أنها ستنجو بشكل كامل، ولكن المؤكد أن معركة قادمة في صنعاء من أجل إخراج الحوثيين من المعادلة.
لكن، ولحزننا الشديد، تم تدمير غزة، ودفعت بيروت ثمناً باهظاً، وسورية في حالة انتقالية لعلها تمر بسلام، وطهران عادت إلى قواعدها سليمة.