مع بدء حرب الإبادة الإسرائيلية العام الماضي وخلالها، تبين بأن هناك متنافسَين اثنين فقط على النفوذ الإقليمي، وذلك بعد تراجع الاهتمام من قبل الأقطاب العالمية، وعلى وجه الخصوص القطب العالمي الأعظم وهو الولايات المتحدة، التي أظهرت في العديد من المناسبات رغبتها، إن لم يكن في الخروج من الشرق الأوسط، ففي خفض وجودها العسكري خاصة، لتجنب الاصطدام مع أكثر من جهة إقليمية في واحدة من أكثر بؤر التوتر في العالم، وهذان المتنافسان هما بالطبع: إسرائيل وإيران، وإسرائيل أظهرت منذ عدة سنوات طموحاً لا حدود له، في التمدد والنفوذ، وحتى السيطرة على كل الشرق الأوسط، باعتبارها أقوى قوة عسكرية فيه، ليس استناداً الى قوتها العسكرية التقليدية، بالطائرات الحربية والدبابات والصواريخ، وليس اعتماداً على دعم الغرب اللامحدود لها عسكرياً وسياسياً ومالياً وحسب، ولكن لكونها أيضا القوة النووية الوحيدة في المنطقة، بل ربما كانت القوة النووية السادسة في العالم، من حيث امتلاك عدد الرؤوس النووية، أي بعد الدول العظمى الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.
وقد وصل الطموح الإسرائيلي مداه خلال ولاية الرئيس السابق_العائد بعد أقل من شهر، الى البيت الأبيض دونالد ترامب، والتي خلالها تمكنت إسرائيل ورغم أنها محكومة من قبل اليمين المتطرق العنصري، من إغلاق أبواب أوسلو والتفاوض مع السلطة الفلسطينية، بل إن ترامب أكثر من ذلك منحها قراراً طالما تجنب اتخاذه الرؤساء الأميركيون السابقون، وهو تنفيذ قرار الكونغرس المتخذ منذ عقود بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس المحتلة، وزاد على ذلك منح إسرائيل اعتراف بلاده وهي الدولة العظمى الوحيدة في العالم، بضمها للجولان السوري المحتل، ولم ينطق يوماً بحل الدولتين، بل شد على يد بنيامين نتنياهو بأن دفع عجلة التطبيع في الشرق الأوسط دون الدخول من البوابة الفلسطينية، وذلك بعقد اتفاقيات أبراهام مع دول الإمارات والمغرب والبحرين العربية.
هكذا وصل نفوذ إسرائيل الى الخليج العربي والمغرب، أي الى حافتي الوطن العربي، من أقصى الشرق لأقصى الغرب، ولم يكن هناك من يقف في طريق إسرائيل سوى إيران، الدولة النفطية والقوة العسكرية، والأهم اللاعب الإقليمي الوحيد الذي تبقى بعد إخراج العراق وسورية ومصر وحتى بعد إخراج السعودية من الملعب الإقليمي، ولم يبق من اللاعبين العرب، المعتدلين والمتشددين، من يمكنه أن ينافس إسرائيل لا في ساحة القتال، ولا في سوق المال والاقتصاد، لا مجتمعين ولا فرادى، أما إيران فتزيد على ما لديها من قوة نفطية وعسكرية، باتت معها على ابواب امتلاك السلاح النووي، ما هو أهم، نقصد ما سمي بمحور المقاومة، وهو محور أساسه طائفي بشكل رئيسي، اللهم إذا ما استثنينا وجود فصائل فلسطينية، لا تنتمي لإيران طائفياً، أي ليست من الطائفة الشيعية، لكنها ارتبطت بها، على أساس أنها تدعمها في حربها ضد الاحتلال الإسرائيلي، خاصة وأن أحداً منها لم يجد أي دعم أو اسناد يذكر لا عسكرياً ولا مالياً ولا حتى سياسياً من أي بلد عربي سني.
هذا الصورة تجلت تماماً خلال عام مضى، بعد أن كانت الصورة مغايرة لهذه قبل أكثر من عقد من السنوات، ذلك أن صورة الشرق الأوسط بدت بكونها آخذه في التغير مع انطلاق الربيع العربي عام 2011، أي قبل عقد ونصف تقريباً، وهو التغير الذي تأخر على أي حال، أكثر من عقدين، أي منذ انتهاء الحرب الباردة، وكان الشرق الأوسط بشكله الحالي، شأنه شأن كل المناطق الإقليمية في العالم، قد تشكل ما بين الحربين العالميتين وفي ظل الحرب الباردة، وكان من الطبيعي أن يتغير مع انتهائها، وأن يصبح أكثر ديمقراطية مع اسقاط أنظمة حكم الفرد المستبد، لكن تدخل القوى الدولية والإقليمية لعب دوراً حاسماً، لجهة اسقاط أنظمة، وعدم إسقاط أخرى، كذلك الى جهة أن يكون حال الدول التي سقطت أنظمتها أسوأ مما كان عليه من قبل، ومثال ذلك واضح في كل من العراق وليبيا، والسبب بالطبع يعود الى وجود إسرائيل في الشرق الأوسط، التي ليس من مصلحتها أبدا أن يكون التغير لصالح تقدم أو وحدة الشعوب العربية، وهكذا ظهرت حتى تونس ومصر اللتان كانتا أقل ضرراً من غيرهما، وإن تأثرت بالركود الاقتصادي، وإن كانت تجنبت التفكك.
وخلال الربيع العربي، ظهرت إسرائيل خارج إطار الصورة، فيما إيران ظهرت خارج نطاق التدخل، بل بدت الأمور أفضل قليلاً بالنسبة لها فيما خص اسقاط نظامي صدام حسين وعلي عبد الله صالح، وذلك بالنظر الى كون النظامين السابقين عروبيين أو قوميين، فيما كان شعباهما يحسبان طائفياً على الشيعة الذين تتزعمهم إيران، لذلك تقاسمت إيران مع أميركا النفوذ في العراق، فيما حققت إسرائيل اخراج القوة العسكرية العراقية السابقة من معادلة الصراع معها، بينما امتد النفوذ الإيراني الى اليمن، وفي نفس الوقت وجدت إيران نفسها تدافع عن النظام السوري في سورية، وذلك في مقابل تنامي النفوذ التركي في المنطقة ارتباطاً بكون الإخوان المسلمين حلفاءها الذين تقدموا دون غيرهم لوراثة أنظمة الحكم الساقطة بفعل الربيع العربي.
لكن فشل الإخوان في البقاء في حكم مصر وتونس، وبالتالي تراجع رهان حماس، وهي أحد أهم عناوين الإخوان والإسلام السياسي عموما في المنطقة، على حكم إخوان مصر بعد عام فقط لهم في الحكم، وحماس كانت قبل الربيع العربي ضمن محور الممانعة، وكان يضم سورية القوية، ومن بعيد إيران، ثم صارت خلال الربيع العربي حليفة تركيا وقطر، اللتين ظهرتا تتصدران هذا المسار من القوة الإقليمية، لكن _كما قلنا_ مع الانهيار السريع لحكم الإخوان، فيما قامت الدنيا كلها على المتشددين من أمثال داعش وغيرها_ تراجع النفوذ التركي في المنطقة العربية، بينما اقتصر النفوذ القطري على الجانب المالي والسياسي، وقد تأكد ذلك بعد فشل تركيا في كسر الحصار عن غزة، فيما لم يصمد الدعم المالي القطري في ابعاد نفوذ إيران عن حماس في غزة.
هكذا وصلت الأمور الى أن يحيط قوس النفوذ الإيراني بالشرق العربي، عبر العراق شمالاً واليمن جنوباً، ليطبق على الجزيرة العربية، وليطوق إسرائيل بحزب الله وسورية شمالاً وغزة جنوباً، بحيث ظهر أن التنافس الإقليمي فعلاً انحصر بين هاتين الدولتين، وكان اندلاع الحرب عام 2023 تأكيداً على ذلك، كما أن مجريات الحرب نفسها والتي لم تنته بعد، أظهرت بأن الشرق الأوسط فعلاً يعاد ترتيبه من جديد، وذلك بتقسيم دول الشرق العربي، بين هذين اللاعبين، ولأن الحرب أظهرت بأن إيران مع محورها باتت نداً فعلياً لإسرائيل، حتى وهي تتلقى كل الدعم العسكري والسياسي والمالي الغربي، بحيث ارتكبت إسرائيل جرائم الحرب في غزة والضفة الفلسطينية ولبنان، لدرجة أن تتهم من قبل القضاء الدولي بارتكاب جريمة حرب الإبادة، وتتعرض لأسوأ إدانة عالمية، لن تتوقف إلا بانهاء احتلالها لأرض دولة فلسطين والأرض العربية المحتلة، ومعاقبة قادتها بمن فيهم نتنياهو.
لكن الفشل العسكري الذي واجه إسرائيل دفعها، ومعها عرابها الأميركي، الى إدخال اللاعب التركي، كلاعب احتياط سرعان ما نجح بتسجيل الهدف الذهبي المتمثل بإسقاط نظام بشار الأسد، وبذلك خسرت إيران أحد أهم مفردات محورها، الرابط جغرافياً بينها وبين أقوى جماعاتها المسلحة، نقصد حزب الله، ولأن الحرب عملياً عادة من تنهك طرفيها، بحيث يمكن القول بأن كلاً من إسرائيل وإيران خسرتا الكثير في هذه الحرب التي تقترب من وضع رحالها، فيما كان بالنتيجة أن دخل اللاعب الثالث الملعب الإقليمي، ليقاسمهما النفوذ والسيطرة، على الأرض والنفط السوري، وعلى السوق العربي، وعلى زعامة الشرق الأوسط، تماماً كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، حيث لم يخرج طرفاها المتحاربان، ألمانيا وبريطانيا من الملعب وحسب، بل تركاه للاتحاد السوفياتي السابق وأميركا، وربما في إعادة للصورة القديمة جداً التي كان عليها الشرق العربي، أيام تقاسم النفوذ والهيمنة بين امبراطوريتي الفرس وبيزنطة، حين كان العراق مملكة المناذرة يتبع فارس، وسورية الغساسنة تتبع بيزنطة الروم.
فيما لم تكن هناك إسرائيل من قبل، والتي يبدو بأن تحالفها مؤخراً مع تركيا لكسب الجولة ضد إيران، يمكن أن ينقلب الى تحالف في جولة تالية بين تركيا وإيران، في حال خرجت أميركا من المنطقة ومن سدة حكم النظام العالمي، بما يفرض على إسرائيل الانكفاء داخل حدود بالكاد يقبل لها بها الإقليم الذي ما زال يرى فيها وجوداً طارئاً وغير مستحق.