مع نهاية العام

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة


 


مع نهاية العام 2024، الأشد قسوة على الشعب الفلسطيني، وبعد نحو 15 شهراً على اندلاع حرب الإبادة والتهجير، أود طرح جملة ملاحظات..
أولها، ظاهرة الانقسام الحاد في الآراء والتوجهات إزاء حرب الإبادة، بدءاً من تعريفها، ومروراً بكافة تفاصيلها، وانتهاء بالنظر إلى مآلاتها ونتائجها.. وقد ترافق ونجم عن هذا الانقسام حالة استقطاب حادة، وانتشار لثقافة الكراهية والتعصب، وغياب النقد المسؤول والهادف (أو تغييبه وتجريمه).
ثانيها: الأغلبية الساحقة من أهلنا في غزة تكاد تتفق على رأي واحد، مفاده أن هذه الحرب عبثية، ولا طائل منها، ولم تجلب سوى الدمار والخراب، ومع كل يوم جديد هناك مائة شهيد بالمعدل، ومزيد من البؤس والشقاء بلا أفق.. ويقابل هذا الرأي رأي آخر يتبناه أغلبية من هم خارج غزة، وتحديداً في المناطق الآمنة البعيدة عن الصراع، وهذا الرأي يركز على بطولات فردية للمقاومين، مع تضخيم لقدرات المقاومة، وتوقع أكيد وقريب لهزيمة إسرائيل، وأنها على حافة الانهيار، وبالاعتماد على الشعارات الدينية.
ولهذا الافتراق الحاد في الوعي والرؤى أسباب سوسيولوجية ونفسية ذات أبعاد سياسية، لها علاقة بالجغرافية السياسية وتأثر كل مجموعة سكانية بظروفها المحيطة، وبالإعلام المسلط عليها (تناولتها في مقال سابق)، يضاف إليها سبب وجيه وبسيط، وهو أن صاحب الجرح أكثر تأثراً به، وإحساساً بآلامه بما لا يُقارن مع أي شخص بعيد، حتى لو أبدى تعاطفاً لفظياً، ومع ابتعاد المسافة والنأي عن الخطر يقل الإحساس بالتعاطف، ويصبح خبر مجزرة تودي بحياة مائة شخص مجرد خبر لا يحظى سوى بلحظات تأثر عابر ومؤقت.
وهناك سبب آخر، سأعيد ذكره من باب التأكيد، ونظراً لأهميته، وهو أن من هم خارج فلسطين (خاصة في الدول العربية) يعيشون في كنف أنظمة قمعية، ويشعرون بالمهانة والعجز، خاصة بعد عقود وقرون من الهزائم المتتالية، دون أي حراك.. وعندما اشتعلت جبهة غزة شعروا أن هذا المكان يمنحهم الشعور بالعزة والكرامة، ويعيد إليهم توازنهم المفقود، ويزيد من دفقات الأدرينالين في شرايينهم المتيبسة.. ولذلك يجب أن تظل هذه الجبهة مشتعلة لأنها آخر بقعة تمنحهم ما يفتقدون إليه بشدة، ولا بأس أن يموت كل أهل غزة، وأن تتدمر الضفة الغربية (حتى آخر طفل فينا) ولا أن نصدق أننا أمة مهزومة.
ويمكن ذكر أسباب أخرى على عجالة، ربما أهمها الشعارات البراقة، والجمل الإنشائية الجاهزة، مثل مقولة «إعادة القضية إلى الواجهة الدولية»، وكأنَّ الفلسطينيين عاجزون عن إعادة تركيز اهتمام العالم بقضيتهم إلا بتقديم خمسين ألف إنسان ضحية لهذا الهدف! ولا توجد أساليب وأدوات نضالية وسياسية أخرى! ومقولة إن «الشعوب يجب أن تضحي»، وكأنَّ الشعب الفلسطيني كان نائماً طوال القرن المنصرم، ولم يقدم تضحيات ودماء، ولم يفجر ثورة مسلحة، وانتفاضتين شعبيتين، ومئات عمليات المواجهة الشجاعة.. ومقولة: «الجزائر قدمت مليون شهيد»، مع العلم أنه لا توجد إحصائية توثق عدد شهداء الثورة الجزائرية (التي دامت 132 سنة)، وهناك فروقات جوهرية بين الجزائر وفلسطين، وفروقات وسمات خاصة لكل ثورة تحررية، وكل هذه المقارنات فاسدة وغوغائية ومضللة ويجري تسويقها للتغطية على المراهقة السياسات والمغامرات المتهورة غير المحسوبة.
وبما أن الذين يبررون مقتل وإصابة نحو مائتي ألف إنسان في غزة، يزيدون على مثال الجزائر بالحديث عن فيتنام وكوبا وغيرها، التي قدمت ملايين الضحايا.. وبمناسبة الحديث عن «المليون شهيد»، لنتذكر أن الثورة السورية (بصرف النظر عن موقفنا منها) قدمت نحو مليون شهيد سوري وتشريد الملايين من ديارهم ما بين 2011، و2019، وهي تضحيات عظيمة بلا شك، لكنها انتهت بتقسيم سورية لثلاث مناطق وبقاء نظام الأسد خمس سنوات كاملة، حتى حصل التغيير، وأطيح بالنظام خلال يوم وليلة، ولكن بأساليب وأدوات أخرى، أي بعد اتفاق القوى الإقليمية وفي مقدمتها أميركا وإسرائيل وتركيا وروسيا على إعادة تغيير الخارطة السياسية للمنطقة بدءاً بسورية، ودون دماء.. أما العراق فقد خسر مليون قتيل خلال حروبه الأهلية والخارجية ولم يحصل سوى على نظام فاسد وطائفي.. بمعنى أن العبرة ليست بتقديم مليون شهيد، بل بكيفية إدارة الصراع وشكل ونوع الثورة وأساليب المقاومة لتحقيق النصر.
وفي نفس سياق التمويه وتبرير الفشل، وللتهرب من تحمل المسؤولية، أضيفت مقولات دوغمائية أخرى، مثل المقولات التي تحاول تصوير الخراب الذي حل بغزة بأنه ابتلاء من الله، وهدم البيوت الله سيعوضها، وكل من تهدم بيته سيلقى قصراً في الجنة، وأن كل شيء مقدر من الله (بما في ذلك مخطط إسرائيل لحرب الإبادة)، وأن على أهل غزة الصبر والدعاء.. ولن أناقش هنا تلك المقولات من حيث المعنى العام، بل أناقش توظيفها السياسي والأيديولوجي لتمييع القضية، وصرف الانتباه، وتصبير الناس بأمل وهمي، وحلول أخروية (ليست من شأن ولا اختصاص البشر).
الدماء التي تُسال في غزة هي دماء الغزيين، والدمار الذي نشاهده هو دمار غزة.. هذه القضية الأهم، وليس كما تحاول «الجزيرة» خداعنا وخداع العالم بالتركيز على بضعة قتلى وإصابات لجنود إسرائيليين وإعطاب دبابات وآليات لجيش الاحتلال.. لقد أدى هذا التضليل إلى تعطيل كل أمل بفعل شعبي حقيقي ومؤثر وذي معنى لجماهير الأمتين العربية والإسلامية، التي خدرها هذا الخطاب المضلل وتلك الوعود الزائفة التي روج لها محللو وخبراء «الجزيرة».. كما أضعف كل إمكانية لإظهار حقيقة إسرائيل العدوانية المتوحشة، وبطشها بالشعب الفلسطيني وفتكها به، وقتلها للمدنيين ضمن حملة تطهير عرقي ممنهجة (كما يجب أن يكون عنوان الحرب، وعنوان كل خبر عوضاً عن خبر الاشتباكات الضارية)، فطرح كهذا غير ممكن مع هذا التناقض بين الشكوى من الإبادة والتركيز عليها، والتباهي بالنصر القادم والقدرات الخارقة للمقاومة، والإيهام بأن الحرب جيش مقابل جيش!
لعل العام القادم يحمل الأمل الحقيقي بزوال الغمة ورحيل الاحتلال.