ســوريــة الآن وغــداً

تنزيل (10).jpg
حجم الخط

الكاتب: تحسين يقين


 

يصعب أن نعزل الأمور عن بعضها؛ فكما كان يردد الفنان السوري المرحوم نهاد قلعي: إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا، فعلينا أن نعرف ما في البرازيل. ولأننا مسكونون بالأمل كما ردد الكاتب المسرحي السوري المرحوم سعد الله ونوس، فإننا نحاول ربط الأمور (وسنسلتها) كما قال دريد لحام في مسرحية «كاسك يا وطن»، في ظل امتلاك الأمل.
تعلمنا التاريخ كمادة مدرسية كمحفوظات نكتبها كما هي، كأنها نصوص شعرية، لدرجة أنني اختتمت المدرسة لأكون من أوائل بلدي، ثم لتكون علامة التاريخ مائة. قرأت الأدب ثم درسته في الجامعة وشاهدت الفنون، وصرت كلما تعمقت في القراءة، أجد نفسي مستدعيا التاريخ الأدبي والفني والتاريخ العام طبعاً، وفيما بعد صرت أقرأ ما يصلني من التاريخ الاجتماعي. لذلك لم تمر بضع أعوام على الكتابة، حتى وجدتني أزداد اهتماما بتاريخ الأدب والفن، بل عدت لكتبي الجامعية لأذاكر تاريخ الأدب العربي وصولاً الى الآن، وهكذا رحت أفعل بالتاريخ الفني حسب الموضوع والجنس الأدبي والفني الذي أكتب عنها، رواية كانت أو شعرا أو مسرحاً أو سينما أو فناً تشكيلياً، وتلك هي حقول اهتمامي الأساسية، إضافة للتربية والتعليم مجال عملي الرسمي. وهكذا تمددت كتب التاريخ في مكتبة المنزل، حتى بات التاريخ هو عشقي كونه ملاذي للفهم، وكذلك للتأمل فيه ونقده، خاصة أنني اكتشفت ان لكل حادثة تواريخ (جمع تاريخ)؛ فكل وتاريخه حسب رغباته واتجاهاته، وإذا عرفنا أن معظم التاريخ كتبه المنتصرون، فأي تاريخ هذا الذي نقرؤه؟
من هنا، ولأسباب مختلفة تبعاً لمنطلقات ومصالح، فإن الأجيال الجديدة تجد نفسها في ظل تاريخ ملتبس. هكذا مثلاً حدث مع جيلنا، فقد كنا عام 1973، في الصف الأول الابتدائي، وكنت كلما كبرت أجد من يخاطبني: «أشوف شو علموك في التاريخ؟» ثم يبتسم ويقهقه قائلاً: تاريخ كذب مزور». كطفل كنت أستغرب، لسبب بسيط فقد كنت مقتنعاً بأن المطبوع يعني الحقيقة. وليس هناك مجال إلا الدراسة. ثم لنكبر وندخل المرحلة الثانوية، لنجد في وقتنا ذاك التيارات السياسية تنتقد كتبنا المدرسة من منظور أيديولوجي؛ وهكذا أصبح لنا عدة تواريخ، التاريخ المدرسي، ثم التاريخ القومي واليساري والإسلام السياسي. وهكذا، فقد تعرضنا لبرمجة متنوعة، كل حسب تأثيره، وكوننا لم نكن نمارس التفكير النقدي، فقد تم تشتيتنا، بل وبدأت مرحلة الاستقطاب الأيديولوجي-السياسي، أكثر من الاستقطاب النضالي، كون الجميع متفقاً على مناهضة الاحتلال الصهيوني. تعرضنا لتنوع آراء خاصة في التاريخ الحديث والمعاصر، السلطنة العثمانية، والثورة العربية، والقوميين العرب وجمال عبد الناصر، والأخوان المسلمين، وسيد قطب، ومنظمة التحرير، وفتح والجبهة الشعبية. ثم ليمتد ذلك إلى التاريخ العربي الإسلامي القديم، دون أن يثقفنا كتاب مثلا عن تاريخ الحضارات العريقة التي نشأت في بلادنا، ولا عن تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، وأقصد به تاريخ ما قبل عام 1948، فلم نعرف يافا الا اسما مرتبط فقط بالحنين.
كان من الأحزاب التي درسنا عنها صفحتين في كتاب المجتمع العربي، حزب البعث، كان ذلك عام 1984، وأذكر ما كتبه معلم التاريخ على السبورة وجعلنا نضحك. لكن الذي أثار انتباهي كفتى هو لماذا لم يوحد الحزب نفسه في قطري العراق وسورية، ولم أجد لذلك جواباً شافياً، حتى بدأت أقرأ التاريخ من وجهة نظر تدخلات الدول الكبرى، والجانب الشخصي لقيادات الأحزاب التي ما إن تنشأ حتى تتشظى؛ فتنشق كما حدث مع معظم فصائل منظمة التحرير. ولم يكن ذلك كله ليروقنا. فتساءلت وطنياً: لماذا لا نرى الوحدة الوطنية الحقيقية؟ وتساءلت قومياً: لماذا كل هؤلاء القوميين لم يتحدوا؟
لربما تأثرت نظرتي سلباً بالأحزاب، ومنها حزب البعث في القطر السوري، بسبب ما كنا نشاهده ونستمع إليه، من خلافات منظمة التحرير مع قياداته التي هي قيادة الجمهورية العربية السورية. لكن في عمر الثلاثين، رحت أعيد الاطلاع على أفكار حزبي البعث والقومي الاجتماعي، في سياق فهمي للأقاليم العربية وخصوصياته، بدءاً ببلاد الشام. وجدت ما أثار اهتمامي بل وإعجابي. تساءلت وقتها، قبل أن يبيض مفرقي: هذا كان جميلاً، فلماذا لم يتجلَّ على الأرض كما ينبغي!
وكان ما كان، مما شهدنا وشاهدنا، على مدار عمرنا كله، لكل ما حدث من أحداث وعلاقات وتحالفات، وصولا الى الفترة الأخيرة منذ أحداث درعا، وما قيل وقتها عن ثورات الربيع العربي، حيث أننا احتفظنا بضرورة التغيير السلمي فعلياً لا شكلانياً. وهكذا فقد كانت آخر 13 عاماً فترة ملتبسة بسبب ما فعلته الدول التي سعت لتوظيف الحالة لمصالحها، غاضة البصر عن مصلحة الشعب السوري الفضلى. كان الشعب هناك في وضع ملتبس حسب أماكن إقامته ولجوئه. لذلك كان معظمه يعاني كلاهما: المطرقة والسدان. لذلك كانت أحاديثي مع الأخوة السوريين في لقاءاتنا محدودة لتفهمي واقع الحال، كذلك في التواصل الاجتماعي.
والآن!
للأسف، لقد صاحب مشاعرنا تجاه التغيير السياسي حذر واسع، لما نظنه التباساً آخر، ما زال يصاحبنا منذ طفولتنا، وصولاً لبياض ما تبقى من شعر الرأس. وما ضاعف ذلك الحذر هو قصف إسرائيل المحتلة مقدرات الجيش السوري، واحتلال جزء من أراضي سورية، إضافة لوجود عسكري لدول أخرى.
والآن؟ وغداً!؟
من المهم، وهذا ما أرى أن السوريين متفقون عليه، هو تجنب الفتنة، واللجوء الى القانون، وتفضيل الحياة العادية المدنية بعيدا عن أي صدامات تنبع من ثأر وانتقام. وهذا أمر إيجابي؛ فليس كل المسؤولين الموظفين صغاراً وكباراً، وأجهزة الجيش والأمن والشرطة، والمؤسسات والهيئات الحكومية سواء.
وحتى لا يتكرر في المستقبل، كما حصل مع ثورات وتغيرات وتحولات أخرى، حين تكرر انتقام القادم من الذاهب، متذكرين بحادثة في باريس، حين سأل أحدهم أحد المحكومين بالإعدام ساخراً: إلى أين، وهو يعرف أنه الى المقصلة ذاهب، فما كان من المحكوم بالإعدام إلا أن أجابه: إلى حيث ستتبعني. كان عميقا حين توقع نهاية مشابهة لقاتله، وهكذا قيل في فرنسا: إن الذي اخترع المقصلة بها تم إعدامه.
ولأن الشعب السوري يريد الاتعاظ بالشعوب الأخرى، ويريد استئناف الحياة وتعمير ما خرب، فليس لديه وقت إلا لفعل ذلك فقط.
لذلك، وكما يتم الآن قراءة الدستور، فإنه ينبغي قراءة المشهد التربوي والديني والإعلامي، وصولا لمنظومة تضمن الحياة وتجاوز ما كان.
تربوياً، فإن فهم ما أطلنا فيه وفصلناه، يعني ينبغي في ظل التحولات، وتغير النظم، أن تكون عمليات التعليم، خاصة بمناهج التعليم المدرسي العام والعالي منسجمة مع جوهر العدالة الانتقالية.
إن ذلك يتضمن التربية على القيم التي نجمع عليها، القيم الإنسانية، ومن ضمنها قيمة التسامح مع ما يمكن التسامح به وهو كثير؛ فهل خُلق التسامح عبثاً!
وعليه، ما نرجو ألا نورث الجيل الجديد عيوبنا. يكفي!
بل لعلنا ندعه يتعمق في التأمل والتفكير النقدي، في رؤية التنوع الجميل في سورية وبلاد الشام والعراق، ويرى كيف عاشت الشعوب متقبلة هذا التنوع، ويبني عليه، حتى يشعر الجميع بالأمان. ولا يجب بنظري الالتفات نحو ما يشيعه الغرب، الولايات المتحدة خصوصا، عن حماية الأقليات، لأنه لا توجد في بلادنا أقليات أبدا. فهم مواطنون في سورية، وهذا هو الأهم. بل إن التنوع جعلهم أكثر جمالاً.
الآن أمام النخب، والشعب السوري فرصة تأمل ما حدث في بلادنا العربية، لاختيار كل ما هو إيجابي، وتجنب كل ما يؤدي الى المشاكل والنزاعات.
حتى الآن، فإن الأمور متقبلة، ولكن تظل الانتخابات أيضا وسيلة للوصول الى اختيارات الشعب السوري، لأن الوحدة الوطنية السورية، في ظل شرعية الحكم المبني على الديمقراطية، سيكسر مبررات المتدخلين بالشأن السوري عسكرياً.
لذلك فإن التربية على التسامح والعدالة الانتقالية، في هذا التحول، يشكل ضمانة للوحدة والتحرر، ولا يقتصر ذلك على التربية والتعليم، بل على الإعلام خاصة السوشيال ميديا التي أصبحت هي السائدة اليوم.